الأزمة الأخلاقية والمواطنة - د. مشاري بن عبدالله النعيم

  • 9/21/2013
  • 00:00
  • 5
  • 0
  • 0
news-picture

يذكر الأستاذ غسان سلامة (الأستاذ في جامعة IEP في باريس) في تقديمه لكتاب "النساء والفضاءات العامة في المملكة العربية السعودية للباحثة الفرنسية "أملي لورونار" أن "سوق الأعراف في المملكة العربية السعودية هو أكثر ميوعة مما نعتقد، وخاضع للتفاوض اليومي أكثر بكثير مما نتخيل". الكتاب مهم وهو عبارة عن بحث دكتوراه قامت به الباحثة ودرست المجالات الحضرية التي تمارس فيها النساء السعوديات حياتهن في المدينة خصوصاً مدينة الرياض، وقد ترجمته الشبكة العربية للأبحاث والنشر في بيروت هذا العام 2013م. والحقيقة أن العبارة استوقفتني كثيراً كونها تشير إلى تحول أخلاقي بدأ يطفو على السطح في مجتمعنا وربما نحن من يعيش داخل هذا المجتمع لم نشعر بهذا التحول وربما هو في حالة توسع ومستمر في "قضم" رصيدنا الأخلاقي دون وعي منا، فمسألة أن توصف الأعراف في المملكة بأنها "مائعة" وقابلة للتفاوض فهذا في حد ذاته يمثل إشكالية "أخلاقية" كبيرة وجديرة بالاهتمام والتفكير خصوصاً وأننا نستحضر هذه الأيام "اليوم الوطني" الذي يفترض أنه مناسبة تكرس الثوابت وتؤكد عليها وتحدد مبادئ "التعاقد الاجتماعي" الذي اتفقنا عليها جميعاً ومثلت على الدوام "الدستور" الذي يجمعنا ويوحدنا. المشكلة الأخلاقية أو اهتزاز بعض هذه المبادئ تشكل عنصر الخطر الأكبر الذي يجب أن نقف في مواجهتها بدلاً من أن ننكر وجودها، فنحن نعيش دون شك "أزمة أخلاقية" تتطلب منا فهمها وتفكيكها ومعالجتها بدلاً من إنكارها وكما يقول الشاعر: إنما الأمم الأخلاق ما بقيت فإن هم ذهبت أخلاقهم ذهبوا ونحن لا نريد أن نذهب بل يجب أن نعمل على أن نبقي وأن نصحح من أنفسنا فالريح مواتية ونحتاج أن نوجه سفينتنا مع الريح لا ضدها. يذكر الفيلسوف (توماس هوبس) Thomas Hobbes أن "التعاقد الاجتماعي" الذي تبنى على أساسه الدول هو في جوهره "تعاقد أخلاقي" وهذا يعني أن كل فرد في المجتمع يجب عليه أن يستجيب ويلتزم بهذا التعاقد الأمر الذي يشكل في مجمله نوعاً من "التنازل" عن جزء من الحرية الشخصية لصالح النظام الأخلاقي العام الذي يحكم المجتمع، وعندما يتحلل هذا النظام ويتفسخ، فإن هذه الحالة ستشكل مع الوقت تحللاً للتعاقد الاجتماعي الذي على أساسه تشكلت مفاهيم الوحدة الوطنية. الأمر المهم هنا هو أن المواطنة هي "منتج أخلاقي" وليست فقط "حكاية تاريخية" فكلما كان المجتمع ملتزماً أخلاقياً كلما كان الإحساس بالمواطنة عالياً، وهذا في حقيقة الأمر ينطبق على وضعنا الحالي في المملكة، فالإحساس بالمواطنة قبل ثلاثة عقود أعلى بكثير من وقتنا الحالي، مع أننا حاولنا تدريس التربية الوطنية في المدارس وبدأنا في الاحتفال باليوم الوطني ونعمل على كافة الأصعدة على تكريس مفهوم المواطنة، لكننا نسينا أمراً مهماً وأساسيا وهو أن المجتمع يعيش أزمة أخلاقية تتمثل في تراجع التقاليد والقيم المشتركة التي شكلت على الدوام المبادئ الأساسية التي جمعتنا ووحدتنا. السؤال الذي سألته نفسي هو: لماذا تراجعت الأعراف والتقاليد ولماذا زادت ثقافة الأنانية وتفشت ظاهرة الجشع في مجتمعنا، فهذه الظواهر، هي التي تساهم في تآكل روح المواطنة في بلادنا، وهي تنخر مجتمعنا مثل السوس ولا نعرف كيف نوقفها حتى الآن. وقد تذكرت حديثاً دار بيني وبين بعض الزملاء مؤخراً حول "الإخلاص" في العمل الذي صرنا نفتقده، مقارنة بما كنا عليه قبل عقود قليلة، رغم كل الثروات التي نملكها ورغم كل الفرص السهلة التي تحيط بنا. التحول كان داخلنا، اخترقنا وجعلنا ننفصل عن الوطن، وهذا هو مكمن الخطر، لأنه عندما يفقد الإنسان "الإخلاص" يفقد كل شيء وأول ما يفقده الإحساس بالانتماء، والشعور بالهوية. قال لي أحد الزملاء إن "التراجع الأخلاقي" بدأ مع الطفرة الأولى، وتفاقم بشدة مع الطفرة الثانية، فقلت له إن هذا تفسير "مادي" للأخلاق، فلماذا لا تقول إن التطورات المادية الكبيرة التي عاشها المجتمع السعودي والتوسع الحضري العملاق الذي مرت به المدن السعودية لم يواكبه تعليم يتناسب معه الأمر الذي أوجد فجوة كبيرة. كان رد الزملاء حقيقة مفاجئاً بالنسبة لي عندما قالوا لي إن آباءنا، رغم أنهم لم يكونوا متعلمين و "أصحاب شهادات" ربونا أفضل من تربيتنا نحن "أصحاب الشهادات" لأولادنا. المشكلة لا تكمن فقط في التعليم، هناك معادلة "سرية" تشكل دائماً مفتاح التوازن الأخلاقي في المجتمع، وهي التي يعول عليها في المحافظة على هويات الأمم. فعندما يوصف نظام الأعراف لدينا بالميوعة، فهذا يعني أننا فرطنا في المقوم الأساسي الذي يحدد ملامح هويتنا، فأصبحنا بذلك مجتمعً يفتقر "لثوابت الهوية" وبالتالي فإننا كمجتمع ذي تقاليد "مائعة" قابلة للتفاوض يمكن أن تتشكل هويتنا كيفما اتفق. بالتأكيد أنا لا أتفق مع هذا الرأي، فلم نصل بعد إلى هذه الدرجة ولا أعتقد أن تقاليدنا وأعرافنا أصبحت في غاية الميوعة ولكننا نتجه إلى هذا الوضع بسرعة فائقة ما لم نقف ونتدارك الأمر. أنا أرى اليوم الوطني مناسبة لمراجعة النفس، فنحن نحتفل بالوطن لكن يجب أن نفكر في الكيفية التي نجعله أحسن الأوطان، لا يكفي أن نحتفل ونغمض عيوننا عن المشاكل والأزمات التي تواجهنا، خصوصاً تلك التي تكمن داخلنا وتمس نظامنا الأخلاقي، فأنا شخصياً لست قلقاً من "تعثر المشاريع الكبرى" أو تراجع الخدمات، فكل هذه المشاكل المادية هي عبارة عن نتيجة للأزمة الأخلاقية، والحل يبدأ بمراجعة "التحلل" والعمل على إصلاحه، ليس بالخطب والعظات، كما يحلو للبعض ولكن بمراجعة نظامنا التربوي والتعليمي بشكل كامل. نحن ننتقد أداء الوزارات ونعتقد أن المشكلة في الوزير أو في بعض المسئولين والحقيقة هي أن المشكلة أكبر وهي مرتبطة بالمجتمع ككل، لأن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم ولا نتصور أن الحلول ستنزل علينا من السماء بل يجب أن نصنعها على الأرض ونتعامل من خلالها مع الواقع كما هو لا كما نفترضه ونتمناه.

مشاركة :