لا أنكر أبدًا أنني كنت أحد المتفائلين بما كان يسمى "الربيع العربي"، رغم أنني كنت أسمع من البعض أنه ليس ربيعاً بل خريفاً وشتاء مظلماً طويلاً، فقد كنت أرد عليهم "أنكم تخافون التغيير"، وكان جوابهم هو أنهم لم يعيشوا أي تغيير إيجابي منذ عهد الثورات الكبرى في منتصف القرن العشرين، لكنني مع ذلك كنت مؤمنا بأن ما يحدث هو "حجرة" كبيرة ألقيت في المياه العربية الساكنة، لكنني مع تصاعد الاحداث في سوريا واستمرارها والصور المرعبة التي أشاهدها للأطفال وهم يتجمدون من البرد يومياً ويموتون في فرشهم صرت أشعر بالمرارة وأتمنى لو أن هذا الربيع المزعوم لم يأت ولم يطل علينا. المحزن فعلاً هو أن العالم يتوقع أن يزداد عدد اللاجئين والمحتاجين في سوريا إلى الضعف في العام القادم (4 ملايين هذا العام) وهذا يعني أن ضمير العالم سكن واستسلم وأصبح لديه استعداد للتعايش مع الأزمة السورية لفترة طويلة. إذا كان الغرب، بلا أخلاق، فالعرب بلا إحساس، وهذه والله طامة كبرى، بالنسبة لنا كنا نقول: «الضرب في الميت حرام»، ونحن نتحدث هنا عن جامعة الدول العربية، فأتت الأزمة السورية لتهيل التراب على هذه المؤسسة «الميتة» ولتزيد من حالة التبعثر العربي وتحيل المواطن العربي إلى حالة من «اليأس» الشديد وتحثه على التنصل عن عروبته وهويته رأيي كان ولا يزال أن عالم اليوم "بلا أخلاق" وأن ما يسمى بحقوق الإنسان ومواثيق الأمم المتحدة التي وضعها الغرب هي مجرد أدوات يستخدمها هؤلاء من أجل التدخل في شؤون الآخرين لحماية مصالحهم لا حماية الشعوب. الغرب أنسلخ من الأخلاق، رغم أنه أكبر منظر لفلسفة الأخلاق وأكثر من وضع نظماً وقوانين ووقع على معاهدات لكنه يحمل ثقافة لا تمارس الأخلاق فعلاً ولا تؤمن بها إلا على المستوى النظري، وهذه هي الأزمة التي تعاني منها البشرية في الوقت الراهن. الأزمة السورية تعري هذه الأزمة وتبرزها لتؤكد للعالم أجمع أننا بحاجة إلى نظام عالمي جديد غير ذلك النظام الذي أعلن "جورج بوش" الأب عام 1992م، أنه عالم يجب أن يغلب مصالح الشعوب على "اللعبة السياسية" الماجنة التي تضحي بملايين البشر من أجل حفنة دولارات. وإذا كان الغرب، بلا أخلاق، فالعرب بلا إحساس، وهذه والله طامة كبرى، بالنسبة لنا كنا نقول: "الضرب في الميت حرام"، ونحن نتحدث هنا عن جامعة الدول العربية، فأتت الأزمة السورية لتهيل التراب على هذه المؤسسة "الميتة" ولتزيد من حالة التبعثر العربي وتحيل المواطن العربي إلى حالة من "اليأس" الشديد وتحثه على التنصل عن عروبته وهويته، فما كنا نسمعه قبل الربيع العربي المزعوم عن "موت العروبة" رجع أقوى من الأولى وأصبح مدوياً بعد أن رأى المواطن العربي بأم عينيه عجز المؤسسة التي كان يأمل أن تقود العمل السياسي في سوريا كما قادته في الحالة الليبية لكنه اكتشف أن ما حدث هو مجرد وهم وأن ما حدث في ليبيا كان يحركه الغرب لا الإرادة العربية وأن الجامعة العربية ميتة. حالة اليأس العربي هذه تنعكس على كل قضايانا سلباً وتجعل العالم يستهتر بنا، حتى النقلة النوعية التي حدثت في مصر بعد ثورة 25 يناير والصورة الحضارية الراقية التي أظهرها المصريون في تلك الثورة تراجعت بشدة في 30 يونيو الماضي وتحولت إلى صدام أهلي مسلح قد يدخل أكبر دولة عربية في نفق مظلم. يحق لنا أن نتساءل حول ما يحدث حولنا، وهل نحن مجبولون على الفوضى ومحاربة التحضر والديموقراطية. هل الحالة العربية هي حالة "جينية" يصعب تغييرها وانتزاعها وتحويلها إلى مسار حضاري يشارك العالم ماهو مقدم عليه. دعوني أقول إنني في الفترة الأخيرة كنت أقرأ في تاريخ الأندلس وفزعت من أهوال المؤمرات وحالات الاحتراب الداخلية التي مرت في تاريخ الوجود العربي في هذه المنطقة، والأمر لا يتوقف عند الأندلس بل يمتد إلى كل مناطق التواجد العربي. أحياناً أقول في نفسي لله درنا أننا أمة مازالت على قيد الحياة، رغم كل ماحصل ويحصل لنا، لكني أقول كذلك لعل الله كتب علينا هذه الحالة من عدم الاستقرار وعدم الاتفاق إلى يوم القيامة، فكل أمل جديد يتحول بسرعة البرق إلى كابوس مزعج، وكل محاولة للتغيير تأتي بحمل ثقيل وتكشف عن المستور "الأسود"، فصرنا نقول "الله يستر من الجاي" وتشكلت أمثال شعبية تؤكد على الركون والاستسلام وقبول ماهو موجود "ما تعرف قديري إلا لما تجرب غيري" ويبدو أن تاريخ الكوارث الذي ارتبط بالثقافة العربية جعل الناس تخاف من كل شيء جديد ومن أي تغيير يحدث وتتشاءم منه، لأنها لم تجرب التغيير إلى الأفضل. بالطبع هناك من سيعترض على قولي بأن ثقافة الاختلاف جينية عند العرب، حتى علماء الانثروبولجيا قد يعارضون هذه النظرية "الجينية"، والتي ابتكرها الغرب أساساً في القرن التاسع عشر ليبرر نزعاته الاستعمارية، فكما يذكر (كليفورد جيرتز) في كتابه "تفسير الثقافات، أن العامل الجيني غير مؤثر والبشر متساوون في المقدرة العقلية، لكن يبدو أن هناك تراكماً للعوامل البيئية والثقافية جعلت من العرب في حالة فرقة دائمة حتى داخل البلد الواحد وأن هذه الفرقة ليست مجرد اختلافات يمكن إدارتها بل هي حالة ثقافية صدامية تنقلب إلى حالات من الاحتراب الداخلي والتآمر. أنا لا أريد أن أبالغ في اليأس ولكن الوضع الذي تعيشه السياسة العربية لا يبشر بالخير والذي يدفع الثمن غالياً هم المجتمعات. السؤال الآخر الذي أرى أن له أهمية هو: لماذا يوجد لدينا رغبة في هدم الذات وهدم المعبد على رؤوس الجميع فمن بيدهم الحل والربط عندهم الاستعداد أن يفنى آخر رجل في شعوبهم ويبقون في أماكنهم، فثقافة "أنا ومن بعدي الطوفان" تجعل واحداً مثل الأسد يضحي بكل الشعب السوري من أجل ضمان بقائه. بل أنه يعمد على استفزاز الجميع ويصرح بأنه سيرشح نفسه للرئاسة مرة أخرى رضي من رضي وغضب من غضب. هناك مشكلة في العلاقة بين من يحكم وبين الشعب، وهذه المشكلة لايمكن أن تحل بالحديد والنار ولكن بإعادة شروط التعاقد الاجتماعي وبتحديد شكل وإطار هذه العلاقة.
مشاركة :