السياحة الريفية وثقافة السفر - د.مشاري بن عبدالله النعيم

  • 7/27/2013
  • 00:00
  • 6
  • 0
  • 0
news-picture

خلال شهر رمضان تتاح للمرء فرصة للتأمل والتفكير وطرح الأسئلة، ولمَ لا، فالأسئلة هي التي تقود للتفكير العميق في الظواهر الاجتماعية والثقافية والعلمية والبحث عن إجابات لهذه الأسئلة وغالبا ما تشكل المنعطفات والتحولات المعرفية التي مرت بها الحضارة الانسانية. ومهما كانت هذه الأسئلة كبيرة أو صغيرة فلابد أنها ستساهم في زيادة المعرفة بظاهرة ما. رمضان فرصة لمثل هذه الافكار التي قد تجول في الخاطر وتحاول أن تسكن وتنمو وتتطور ويكون رمضان هو الوقت المناسب لسكونها وتحولها إلى حالة تأمل. لقد صادف أول من أمس (الأربعاء، منتصف شهر رمضان) أنه تم عقد ورشة عمل حول السياحة الريفية في المملكة (نظمتها الهيئة العامة للسياحة والآثار) وتم استعراض تجارب عالمية منها التجربة البريطانية فتذكرت تلك الايام الخوالي التي كنت أدرس فيها في بريطانيا وكنا نسافر (مجموعة من الاصدقاء) بأسرنا وأطفالنا ونتوقف عند بعض المزارع التي على الطريق ونسكن في "كوتج" صغير لليلة واحدة مع الفطور (بد آند بريكفاصت)، لقد صادف أكثر من مرة أننا سافرنا اثناء شهر رمضان باتجاه "الهاي لاند" في سكوتلاندا وسكنا تلك الأكواخ الصغيرة المعدة بعناية للمسافرين المارين في طريقهم بالمنطقة أو القاصدين للمنطقة للإقامة فيها في عطلة نهاية الأسبوع. رمضان في تلك الفترة كان في فصل الشتاء والليل كان يأتي بسرعة في تلك المناطق وكان من الضروري الإقامة في الطريق أثناء السفر حتى لا يتعب الأطفال. منذ تلك الفترة وأنا أفكر في ثقافة السفر لدينا في المملكة فكيف يمكن أن نصنع هذه الثقافة وكيف يمكن أن نستثمر مئات المواقع التي نمر بها في طرقنا الطويلة أثناء سفرنا؟ لكننا لا نجد أي فرصة للسكن فيها. ظاهرة "البد آند بريكفاصت" في بريطانيا تعتبر أحد الروافد الاقتصادية المهمة التي تعتمد عليها الأسر البريطانية وكما هو معروف أنه إذا كان عدد الغرف التي تؤجر أقل من 6 (على افتراض أن في كل غرفة سريرا واحدا) لا يحتاج الأمر إلى ترخيص سياحي، وعلى هذا الاساس تقوم الكثير من الأسر بتحويل جزء من مساكنها لإقامة المسافرين بين المدن والمناطق البعيدة التي عادة لا يتوفر فيها فنادق وهي ليست بحاجة إلى فنادق أصلا. قبل عامين قمت بأداء فريضة الحج وسافرت براً مع افراد اسرتي، من الدمام مرورا بالأحساء ثم الرياض وحتى الطائف ومكة ولم أجد مكاناً للإقامة إلا في الرياض ثم بعد ذلك الطائف. لقد مررنا بالعديد من القرى التي تحتوى على مزارع وأماكن يمكن أن تتحول إلى أماكن إقامة صغيرة تقوم على إدارتها الأسر السعودية التي تسكن تلك القرى، لكن للأسف هذه الثقافة لم تتطور بعد، وحتى لو كان لدي الرغبة في التعرف على المناطق التي مررت بها في سفري فإن الفرصة لتحقيق هذه الرغبة محدودة جدا في ظل وجود الأسرة معي وعدم وجود أماكن للإقامة والراحة. ما الذي نحتاجه حتى نحدث انقلابا في ثقافة السفر لدينا، كيف يمكن أن تتشكل هذه الثقافة التي تجعل من الفضاءات البسيطة وتحولها "طوعا" إلى أماكن منتجة ومجالات لزيادة دخل الأسر السعودية التي تعيش في الأماكن البعيدة عن الحواضر الكبرى؟ هذا السؤال الذي أعيد طرحه على نفسي ليس حلما فهو ليس صعب التحقق، بل إنه أصبح حلما ملحّا، إذا فرضنا أنه كان حلما قبل عشرين سنة، لكنه الآن مرتبط بظاهرة نزوح سكاني وهجرات إلى المدن الكبرى لابد أن نوقفها لأنها لا تساهم في التنمية المتوازنة ولا تحد من البطالة بل إنها تفرغ الكثير من المناطق من محتواها السكاني وتزيد من مشاكل المدن الكبرى ولا تساعد الاقتصاد الوطني على النمو المتوازن. المطلوب هو فقط أن تبقى هذه الأسر في أماكنها وأن تستثمر ما تملكه وتقدمه كخدمة مدفوعة الأجر للمسافرين. ليس مطلوباً من هذه الأسر أن تستثمر الكثير من المال في مزارعها ومواقعها التي تملكها فجمالها في عفويتها وبساطتها لكن المطلوب أن تتدرب هذه الأسر على كيفية تقديم هذه الخدمة للمسافرين، وهيئة السياحة تقوم الآن بتطوير برنامج تدريب وتأهيل وتعليم لملاك هذه المواقع عبر برنامج وطني للسياحة الريفية سيتم إطلاقه على نطاق واسع في الفترة القادمة. وحسب معرفتي بهيئة السياحة فهي عندما تفكر في تبني برنامج يركز على تأهيل وتدريب المواطنين، فهي تتميز بالصبر والمثابرة والنظرة البعيدة وتعمل على قطف الثمار وهي ناضجة مهما احتاج ذلك إلى وقت دون أن تستعجل رغم ضغوط الإعلام عليها، فالتحول الثقافي ليس بالأمر الهين ويجب أن لا يكون تحولا "عجلا"، ونحن هنا نتحدث عن تحول في ثقافة السفر وهو تحول اجتماعي، رغم أن فكرة تأجير جزء من المنزل للمسافرين ليس بجديد على مكة المكرمة والمدينة المنورة فقد كانت هذه الظاهرة موجودة إلى وقت قريب في مواسم الحج والعمرة لكننا نتحدث هنا عن "ثقافة وطنية" شاملة تحكمها قواعد اقتصادية. إحدى القضايا التي تعمل عليها الهيئة العامة للسياحة والآثار هي وجود "التنوع" الذي يجذب المسافرين لهذه الأماكن لقضاء فترة أطول أو لنقل تطوير فكرة ثقافة عطلة نهاية الأسبوع وحث الأسرة السعودية على اكتشاف وطنها والتحرك فيه بحرية ومتعة. هذا الأمر لن يتم فقط من خلال الاعتماد على السفر لمسافات طويلة بين المدن بل يجب أن يتكون الدافع الذي يجعل الأسرة السعودية تقضي عطلة نهاية الأسبوع في المناطق القريبة من سكنها الأساسي وهذا يتطلب تنوع افي الأنشطة بحيث تكون خطة التنمية السياحية في كل منطقة متكاملة مع خطة التنمية العمرانية. أنا شخصيا اعتبر القرى التراثية المتناثرة في مناطق المملكة هي من ضمن هذا التنوع الذي يمكن أن نستثمره لدعم السياحة الريفية ففكرة "الفنادق الايكولوجية" هي جزء من ثقافة التراث العمراني الذي يحتاج إلى التكامل مع عناصر الجذب السياحي الأخرى حتى يعود للحياة، فهناك الكثير من القرى التاريخية التي هجرها أهلها وسكنوا بقربها وهي تعتبر فرصة استثمارية سانحة لهذه القرى الجديدة حتى يكون بقاؤها مبررا، فهي مصدر لدخل اقتصادي يمكن أن يغير مستقبل هذه القرى. لن أقول إن هذه أحلام رمضانية لكنها خطط واضحة وتنفيذها مرتبط بمدى قدرتنا على خلق ثقافة سفر جديدة وبالتدريج وبصبر الجميع مع الهيئة العامة للسياحة والآثار في مثابرتها لتحقيق هذا التحول الثقافي والاقتصادي ومساندة وسائل الإعلام لهذه الفكرة والبحث عن الفرص الايجابية وتوجيه الناس لها والتركيز على "التنمية المحلية" لأنها هي الحل..

مشاركة :