الألوان تبعث الحياة وتزيّن الخراب في فندق منسي بفعل الحرب في لبنان بعد أن كان أهم فندق في الشرق الأوسط، فترفع عنه الحزن والفراغ من خلال معرض للرسام الفنان البريطاني توم يونغ الذي اختار العيش في بيروت ويعمل على إعادة إحياء المساحات الخالية عبر الفن. صوفر (لبنان)- في فندق صوفر الكبير المنسي شرق بيروت، تتوسط طاولة بوكر قديمة ثلاث لوحات، الأولى لاجتماع دبلوماسي عربي، والثانية للنجم المصري الشهير عمر الشريف، والثالثة لأبرز أدباء لبنان في المهجر أمين الريحاني، في مشهد يختصر عصرا ذهبيا لمعلم عريق أقفلت الحرب أبوابه. وللمرة الأولى منذ الحرب الأهلية (1975-1990) يشرّع فندق صوفر الكبير، وهو تحفة معمارية بنتها عائلة سرسق الأرستقراطية عام 1892 وكان يعد من أبرز فنادق الشرق الأوسط مطلع القرن العشرين، أبوابه أمام اللبنانيين محتفيا بأربعين لوحة رسمها الفنان البريطاني توم يونغ يحاكي فيها ذاكرة الفندق. وعبر اللوحات المعلّقة في الطابق الأرضي، حيث آثار الحرب تبدو واضحة على الجدران وقاعات الفندق المهجورة في بلدة صوفر في جبل لبنان، على بعد ثلاثين كيلومترا عن بيروت، يصطحب يونغ زوار المعرض في جولة عبر الزمن، منذ بداية القرن الماضي حتى سنوات لبنان الذهبية في الستينات ومطلع السبعينات. ويستوحي يونغ معظم لوحاته من قصص وأحداث وصور حقيقية، فتعكس من جهة رفاهية الفندق الذي ضمّ أول كازينو في الشرق الأوسط، وجعلته يستقطب الطبقة البرجوازية ونخبة نجوم الفن، وتلخص من جهة ثانية دوره في أحداث سياسية بارزة في لبنان والعالم العربي، حين احتضنت قاعاته وحدائقه اجتماعات ولقاءات سرّية جمعت أمراء ودبلوماسيين وجنرالات فرنسيين وبريطانيين. ويقول يونغ (45 عاما) “اكتشفت الكثير من القصص المذهلة. هذا المكان عابق بالتاريخ”. وهو مقيم في لبنان منذ عشر سنوات ويتركز عمله على إعادة إحياء المساحات الخالية عبر الفن. وفي قاعة رئيسية داخل الفندق المؤلف من 75 غرفة موزعة على أربع طبقات، تتوسط لوحة يطغى عليها اللون الأزرق أحد الجدران. وتجمع اللوحة نجوما من العصر الذهبي في مصر على غرار أم كلثوم وفريد الأطرش وعبدالحليم حافظ والراقصة سامية جمال، أبرز رواد الفندق. تخيلوا ما كان يحدث في الفندقتخيلوا ما كان يحدث في الفندق وفي لوحة أخرى، رسم يونغ رجالا وسيدات يتمايلون في حفلة راقصة مبهرة، استوحاها مما كتبه أمين الريحاني، في كتابه “قلب لبنان” تحت عنوان “القصر المنيف” منتقدا البرجوازية التي عاينها في فندق صوفر الكبير. وكتب الريحاني، الذي تردد على لبنان منذ العام 1907 آتيا من نيويورك حيث كان يقيم، “وقفت وصديقي في البهو الكبير نشاهد الراقصين، وأكثرهم في الثياب الرسمية والراقصات في شتى الأزياء الباريسية، والفساتين كلها مقوّرة الصدر”. وتحضر لوحة بورتريه للريحاني في غرفة تتوسطها طاولة بوكر نجت من القصف والسرقات المتعددة التي تعرّض لها الفندق خلال الحرب الأهلية. وكان الريحاني في المؤلف ذاته وصف بدقّة حال المراهنين في الكازينو. وأمام جدار مقابل، يعدد يونغ أسماء لقادة سياسيين جمعهم في لوحة واحدة، بينهم رئيس حكومة الاستقلال رياض الصلح والرئيس السوري آنذاك شكري القوتلي ومفتي القدس أمين الحسيني والمبعوث البريطاني الجنرال كلايتون. وتظهر اللوحة التي استوحاها يونغ من صورة قديمة لفرانس برس التقطت عام 1947، اجتماعا عقدته اللجنة السياسية لجامعة الدول العربية في الفندق في سبتمبر 1947 وخصصت لمناقشة قضية فلسطين قبل عام من إعلان قيام دولة إسرائيل. وفي زاوية أخرى من الغرفة ذاتها، عُلقت لوحة ثالثة للممثل المصري الشهير عمر الشريف الذي زار الفندق مرارا وتبدو أنظاره شاخصة إلى طاولة البوكر. ويقول يونغ، إن هذه الغرفة تختصر ما كان عليه الفندق خلال أيام عزّه، حين كان “واحدا من أهم الفنادق في الشرق الأوسط، وحيث التقى الملوك والأمراء والأميرات والجنرالات، وكذلك أكثر الفنانين شهرة”. أول طاولة بوكر في الشرق الأوسطأول طاولة بوكر في الشرق الأوسط وتشرح خبيرة المعارض الفنية المستقلة نور حدر، “حاولنا من خلال تنظيم المعرض أن نجعل الناس يشعرون وكأنهم يدخلون إلى الفندق ولم يتغيّر فيه شيء. في غرفة المراهنة الأوراق على الطاولة وفي المطبخ النور مضاء والأكواب موجودة”. وتضيف “حاولنا أن ندفع الناس إلى أن يتخيلوا كل ما كان يحدث في هذا الفندق”. ولا تغيب عن رسومات يونغ سكة القطار، التي مُدّت في نهاية القرن الثامن عشر، وشكلت صوفر محطة رئيسية لرحلات يومية انطلقت من بيروت إلى دمشق، وهو ما ضاعف من شهرة الفندق. ومن خلال هذا المعرض وأعمال سابقة في لبنان، يعمل يونغ على بث الروح في قصور وعمارات دخلت طي النسيان أو الإهمال أو اجتاحتها حمّى العمران. ويوضح “خلاصة الوقت هي حقا كل ما يدور عملي حوله”، منوّها، “بقدرة اللوحات على التعبير عما يتخطى عصرنا، وأن تمنحك إحساسا وتجعلك أقرب من تاريخ قد يكون ضاع وإعادته مجددا إلى الحياة”. ويطمح منظمو هذه الاحتفالية الفنية، وعلى رأسهم رودريك سرسق كوكران، أحد مالكي الفندق والمبادر إلى دعوة يونغ لإقامة هذا المعرض، إلى تحويله “مساحة للفن والثقافة والتربية”. وعلى هامش المعرض المستمر حتى 14 أكتوبر، تُعرض مقتنيات من الفندق نجت من عمليات نهب متكررة ونسخ قديمة من جدول رحلات القطار وملصقات وبطاقات بريدية. كما تُنظم عروض فنيّة وموسيقيّة وورش عمل للطلاب من مناطق عدة. وتبدي زينب تويني (32 عاما)، وهي أخصائية في العمل الصحي الاجتماعي اصطحبت طلابها إلى ورشة عمل في المعرض، إعجابها الشديد. وتقول “يبث حياة في الماضي وينقله عبر صوره إلى الحاضر (..) هذه التجربة تمنحنا أملا وتضيء على جزء من ذاكرة لبنان”. وفي هذا البلد الصغير المتعدد الطوائف والانتماءات، وحيث الانقسامات السياسية كبيرة منذ عقود، يطمح يونغ إلى أن يسهم في ربط اللبنانيين بجزء من ذاكرة بلدهم. ويقول “اللبنانيون منقطعون عن تاريخهم. هذه الأماكن مغلقة وهذا جزء من مشكلة أوسع نطاقا تتعلق بالذاكرة”، موضحا أن المزج “بين الذكريات والجذور الثقافية يمنح إحساسا بالهوّية”.
مشاركة :