دمياط، شتاء 1953.. عرضت سينما فاتن فيلما بعنوان «الرجل الذي ينكمش» (The man who shrinks).. أحداث الفيلم كانت مختلفة تماما عن أفلام ذلك الوقت، ولعل ذلك هو السبب في أنه ظل عالقا بذهني. رجل أعمال أميركي في منتصف العمر، يهوى الإبحار في زورقه الصغير، قاده سوء طالعه إلى الإبحار في منطقة كانت خاصة بمناورات وتجارب ذرية. الواقع أن البحرية الأميركية نبهت لهذا الأمر قبلها بأيام، غير أنه لم يلتفت لذلك، فكانت النتيجة أن تسربت إلى جسمه إشعاعات ذرية لم يشعر بها إلا عندما بدأ يفقد وزنه بوتيرة سريعة. كان ينكمش ويتضاءل. استسلم للأمر على أمل أن يتوقف هذا الانكماش عند حد، غير أن ذلك لم يحدث. وصل حجمه الآن إلى عدة سنتيمترات وبدأ يتعرض لأخطار كثيرة، أنقذته زوجته في اللحظة الأخيرة قبل أن تلتهمه قطة شرسة. كوب ماء سقط على المائدة فاكتسحته المياه وأسقطته من خلال شقوق في الأرض الخشبية إلى الدور تحت الأرضي، صيحات استغاثته كانت أضعف من أن يسمعها مخلوق. في المكان الذي سقط فيه، تدور بينه وبين عنكبوت صغير معركة حياة أو موت، طويلة وشرسة، غير أنه بذكائه البشري استطاع أن يتغلب على العنكبوت وأن يقتله. أنهكته المعركة فقرر البحث عن مخرج من المكان، وبالفعل خرج من تحت عقب الباب إلى دنيا الله الواسعة. ما زلت أذكر هذه اللقطة بجلاء، وهو يخرج من ذلك المكان المظلم إلى ضوء النهار، ثم يستلقي على الأرض وقد تحولت حشائش حديقة بيته إلى نباتات عملاقة.. كان يفكر.. الفناء والعدم يزحفان على جسمي.. ربما بعد ساعات لن يكون لجسمي وجود، ولكني ألاحظ أن عقلي بقدراته ظل هو هو لم يطرأ عليه أي تغيير، لقد خضت معركة ضد العنكبوت ورسمت خطة للإيقاع به، وتمكنت بالفعل من الانتصار عليه مستخدما نفس قدراتي العقلية التي عشت عليها قبل أن أصاب بالإشعاع.. إذن لا صلة لجسمي بوجودي نفسه، سيختفي جسمي غير أني سأظل موجودا بعقلي.. بروحي.. بنفسي.. اختر ما شئت من الأسماء.. عندما وصل إلى هذا الحد من التفكير ابتسم في رضا وارتياح وأغلق عينيه ونام. أفكر في أن الجسم نفسه ليس سوى «الأمبلاج» للذات، وهذه الذات تضم كل ما نعرفه عن العقل والنفس والروح، وكلها موجودات غير قابلة للعدم، هي موجودة وستظل موجودة إلى الأبد بكيفية أعترف بأنني لا أعرفها، كما أعترف أيضا أنه لا دليل عندي يؤكد كلامي. لا داعي للغوص في الأعماق البعيدة، دعنا نقترب من المعاني القريبة، بغير إعمال العقل لا وجود لنا. بمعنى أدق، سيكون الوجود لأجسادنا فقط، أي للجزء القابل للفناء فينا. أريدك أن تلاحظ أن الاهتمام الرئيسي عند المتطرف والإرهابي ينصب على الجسم البشري، وفي الغالب هو يحذف من اهتمامه النصف العلوي حيث يسكن العقل.
مشاركة :