حسان الحديثي لم أتعلق بعبقرية أدبية معاصرة تعلقي بهذا "الاسطورة الشعرية والعبقرية الفكرية" احمد بك شوقي.ولعل هذا التعلق بُنيَ في بدايته -وقبل ان انسلَّ الى المتين من شعره على امرين:الأول مدائحه النبوية وقصائده الثلاث سلو قلبي، نهج البردة. والهمزية النبوية والتي تغنت بها القلوب قبل الشفاه والافئدة قبل الحناجر ولا تجد اليوم عربياً الا ويحفظ شيئاً منها لما لها من وقع جميل في قلوب العرب والمسلمين وهذه تحسب لشوقي ولا شك، وقد كتب عن هذه المدائح الرائعة الكثير وتناولها معظم من له اهتمام بالأدب لجمالها وحلاوتها والثاني رؤيته الفذة ونظرته الثاقبة للتأريخ من خلال ما أبدع في مسرحياته الشعرية العظيمة سيما كليو باترا ومجنون ليلى فلقد جسد بهذين العملين الأدبيين أعلى مراتب الإحساس والشعور من خلال تقمصه لشخصيات سبقته بمئات والآف السنين وتَقَمُص الشخصيات -وإن توفر في المسرحيات النثرية- فليس من السهولة ان يتأتى في المسرحيات الشعرية لتشكيله شعراً مبقياً على المادة التأريخية ومضيفاً اليه الاحساس والشعور والبيئة التي تتلائم مع القول ثم صبَّها كلها في قالب التفعيلة والقافية في حوار بين شخصيتين أو اكثر. ولقد احتنكت قصةُ قيس ابن الملوح وحبُه لابنة عمه ليلى -ابنة المهدي- العامرية الكثير من الخيالات والأساطير بل حتى أن الكثير من أشعاره نحلت له وأٌلفت وزيدت عليه وهذه صعوبة جديدة وتحدٍ آخرٌ لشوقي، ولكن شوقي استطاع أن يأخذ المادة التاريخية بكل معطياتها -كما هي- ويخرج بفريدته دون إهمال أي جزء منها ودون ان تؤثر في النهاية على اسلوبها ونظرتها العامة من وجهة نظرنا ونحن نعيش خلف تلك القصص بكل تلك العقود والقرون من الزمن ومن المشاهد التي تُبقي حولها أسئلة واستفهامات تلك التي صور بها شوقي ان الإمام الحسين -عليه السلام- كان اخاً بالرضاعة لقيس بن ذريح "صاحب لبنى"، وأنه -رضي الله عنه- كان يُعنى بأحوالِ العشّاقِ ويتعاطف معهم وهو الذي قام بخطبة لبنى له ، لقد أخذ شوقي هذه الرواية وضمنها في مسرحية المجنون وكيف ان الامير ابن عوف خلع نعليه تأسيا بالإمام الحسين حين دخل خاطباً ليلى لقيس كما فعل الحسين في دخوله لخطبة لبنى من والدها فيقول شوقي في هذا المشهد على لسان زياد: دعـــه يا مهديُّ يفعلْ إنما يرمـي لمعـنىكالحسين ابن عليٍ وهو بالعشـاق يُعـنىالحسين انـتـعـل الـتـرب الى والـد لبـنىفـرآه حـافـيـاً في سـاحـة الـدار فــجُـنّـاقال لا املك يابن المصطفى بنتاً ولا ابناانت في الدار اميرٌ، فبـما شئت فـمـرنــا ولا ادري كيف فاتت على شوقي ان جعل الحسين عليه السلام اميراً وهو أعلى من ذلك وأعظم ومن المشاهد التي نال بها شوقي استحسانَ المتتبعين لمسرحيته "مجنون ليلى" مشهد الاغماءة التي تصيب قيس فيكبّرون بأذنِه كما يفعل أهل ذلك الزمن بمن يغيب وعيه، لكن قيس لا، يصحو بالتكبير حتى يصيح زياد "ليلى" فيفزَّ من اغماءته قائلا ابياتاً تنصهر لها النفس رقة وعذوبة: ليلى، منادٍ دعـــا لـيـلـى فـخـف لــهنـشـوان فى جنبات الصدر عـربـيدُ ليلى، نــــداء بـلـيـلـى رنَّ فى اذنىســحــرٌ لعمرى له فى السمع ترديدُ ليلى، تردد فى سمعى و فى خلدىكـمـا تــردد فـى الأيـك الاغـــاريــدُ هل المـنـادون اهـلـوهـا و اخــوتـهـاام المـنـــادون عــشّــاق مـعـامــيــدُ كسا النداء اسمها حسـنا و حـبــبهحتى كأن اسمها الُبشرى او العـيدُ لـيـلـى لـعـلي مجـنون يـخـيـل لـىلا الحى نادوا على ليلى و لا نُودوا لقد ابدع بها شوقى حتى نقل القارئ "عاطفياً" الى موقع الحدث وأراه المشهد عن كثب ثم ما لبث ان ان أقنعنا ان قيس قد جُنَّ حقيقةً وها هو لا يكاد يصدق هناك داعٍ دعا باسم ليلى. بل حتى الحوارات الهادئة بين الصبيات العامريات كانت لها دلالات جميلة واسئلة تحاكي الخيال عن اهتماماتهم ونقاشاتهم ويتجسد ذلك في مشهده الذي يضم فتيات بدويات وحضريات كل منهن تُفاخر الأخرى بما اتاحته لهم بساطة الحياة ونعومة التصور ويجمع ذلك شوقي بمشهد فيه هند صاحبة ليلى وقد فضلت حياة الحَضر على البداوةمما ازعج ليلى فتقول بامتعاض مخاطبةً قيس ابن ذريح: قد اعتسفت هند يا بن ذريح ... وكانت على مهدها قاسيةفـمـا الـبـيـد إلا ديـار الكــرامِ ... ومـنـزلـة الـذمـم الـوافـيـةلها قبلة الشمس عنـد البزوغ ... وللـحَـضـرِ القبـلـة الـثانـيةونحن الرياحين ملء الفضاء ... وهن الريـاحين في الآنـيةويقتلنا العشق ُ والحاضرات ُ... يقمن من العشق في عافيةولم نصـطدِم بهموم الحياةِ ... ولم ندرِ –لولا الهوى- ماهيةوآنـاً نـخـف لـصــيد الظـباءِ ... وآنـــاً إلـى الأُسُـدِ الضـاريـة فتجيبها هند بسخرية:وفي كل ناحيةٍ شاعراً ... يغنّي بليلاه أو راويه وهذه دلالة أخرى على ان شوقي كان يعيش اجواءَ القوم وتصوراتِهم وخيالاتِهم بكلِّ ما فيها من جزئيات حتى في تَهَكُمِ ليلي من هند بقولها:ويقتلنا العشقُ والحاضراتُ ... يقمن من العشق في عافية ولم ينسَ شوقي أن يصوّر لنا نار الغَيرة التي تصهر قلب واحشاء قيس بأقتل صورة من خلال الحديث الذي يدور بينه وبين ورد الثقفي -زوج ليلى- حين يسأله قيس قائلاً: بربّكَ هل ضممتَ إليـكَ ليلى ... قُبـيـل الصبح أو قبّلت فاها؟وهلْ رفّتْ عليكَ قرونُ ليلى ... رفيفَ الأقحوانةِ في شذاها؟ فيجيبه ورد جواباً واقعياً فيقول:المرء لا يُسأل هل قبّلَ أهله وكمْ ثم يجهز عليه ورد بقوله:أجل لقد قبّلتُها من رأسها إلى القدمْ فما كان من قيس الا ان يقول مسلماً بعد ان أصابه ورْدٌ في مقتله:تلك لـعـمـري قـبـلةُ الــحُمّى بـلاءٌ وسقـمْأو قبلة الذئبِ إذا الذئب على الشاة جَثَمْ لقد أبدع شوقي أيما إبداع وأجاد أيما إجادة في نقل الواقعة الخيالية وتصويرها فنياً آخذاً بالاعتبار كل مرتكزات الحياة لزمن الواقعة وتفصيلاتها بهيأتِها وشخوصِها، ليشير بذلك الى احساسه العالي باللحظة والقول والسكون والهمسة والتصور واحاطته التامة بذلك ثم مقدرته على الاخراج المسرحي الرائع لقد امتعنا هذا الكردي الدم العربي اللسان والقلب حد النشوة فرحم الله ابا علي في ذكرى مولده
مشاركة :