يبدو «يوم الوحدة الألمانية» هذا العام مناسبة أقل استدعاءً للاحتفال. ورغم مرور 28 عاماً على سقوط «سور برلين»، ثمة حاجز غير مرئي لا يزال يفصل بين شرق البلاد وغربها. وللمرة الأولى، يتقدم حزب «البديل من أجل ألمانيا» على حزب «الاتحاد الديمقراطي المسيحي» الذي تتزعمه المستشارة أنجيلا ميركل في استطلاعات رأي أجريت داخل الولايات الشرقية التي كانت خاضعة للحزب الشيوعي.ورغم أن الفجوة الاقتصادية بين شرق البلاد وغربها انكمشت على مدار الأعوام الـ28 الماضية منذ توحد شطري ألمانيا، فإن الفجوة السياسية في تنامٍ. ويميل الشرق باتجاه أقصى اليمين بسبب الأعداد الكبيرة من أبنائه الذين لا يزالون يشعرون بأنهم مواطنون من الدرجة الثانية، وقدوم مئات الآلاف من المهاجرين خلال السنوات الأخيرة، الأمر الذي فاقم شعور هذا الفريق بأنهم يتعرضون للتجاهل من قبل المؤسسة الحاكمة لألمانيا الموحدة.نشرت الحكومة الألمانية تقريراً حول مدى التقدم الذي سجلته عملية توحيد شطري البلاد سنويا منذ عام 1997. وتكشف الأرقام الواردة بالتقرير حدوث تحسن اقتصادي هائل. على سبيل المثال، كان الناتج الاقتصادي بالنسبة للفرد في الولايات الشرقية وبرلين 43 في المائة من المستوى الأوروبي عام 1991. وارتفع هذا الرقم إلى 73 في المائة عام 2016. وبلغت معدلات البطالة نهاية العام الماضي 5.3 في المائة في الغرب و7.6 في المائة في الشرق. وشكل هذا تحولاً ضخماً عن السنوات الأولى التي أعقبت وحدة ألمانيا، عندما تراجعت أعداد الوظائف المتاحة في ألمانيا الشرقية سابقا بنسبة 34 في المائة بين عامي 1989 و1992، الأمر الذي تسبب في قفز معدلات البطالة من مستوى الصفر إلى نحو 15 في المائة، ما شكل ضعف المستوى الغربي.ومن الطبيعي تماماً أن تبقى ثمة اختلافات قائمة بين شطري ألمانيا، ولم يكن أحد يتوقع اختفاءها تماماً في غضون جيل واحد. الحقيقة أن بيانات الإنتاج والدخول في ألمانيا الشرقية تبدو رائعة مقارنة بالدول الأخرى التي خرجت من حقب شيوعية. وبحلول نهاية العام القادم، ستكون ألمانيا قد ضخت 156 مليار يورو (180 مليار دولار) من الإعانات المالية الحكومية المستهدفة في إطار ما أطلق عليه «ميثاق التضامن» داخل «الولايات الجديدة» منذ عام 2005. ولا يتضمن هذا الرقم الاستثمارات الخاصة من جانب شركات سعت للاستفادة من العمالة الأرخص في شرق البلاد.وبوجه عام، يمكن القول إن انهيار الشيوعية أتى بنتائج أفضل في ألمانيا الشرقية عن الحال داخل الدول الصغيرة التي كانت تتبع الاتحاد السوفياتي والتي انضمت إلى الاتحاد الأوروبي.ومع ذلك، تبقى بعض جوانب الفجوة الاقتصادية المتبقية بين شرق وغرب ألمانيا تثير القلق، وعلى رأسها أن الشرق لم يعد يلاحق ركب الغرب. فعلى مدار الأعوام الـ10 الأخيرة، انكمش الفارق في إجمالي الناتج الداخلي بالنسبة للفرد بين الغرب والشرق بنسبة 4.2 في المائة فقط. كما أن مجمل النشاط التجاري بشرق ألمانيا لم يلحق بغرب البلاد بالصورة التي قد توحي بها العناوين الرئيسية.على سبيل المثال، يبلغ إجمالي الإنتاج الصناعي بالنسبة للفرد في الشرق 52 في المائة فقط من المستوى الغربي، ما يشكل تحسناً كبيراً عن مستوى الـ17 في المائة الذي كان قائماً عام 1991، لكن لا تزال هناك فجوة كبيرة ينبغي سدها. ويكمن السبب في أنه في الشرق، تعتبر الشركات في متوسطها العام أصغر عن نظيرتها في الغرب، علاوة على أنها تنفق قرابة النصف على جهود البحث والتطوير كنسبة مئوية من المبيعات. حتى سرعة الإنترنت تعتبر أبطأ في الشرق.وربما لا يتغير هذا الوضع مطلقاً، فعلى مدار 28 عاماً منذ توحيد شطري ألمانيا، لم تقدم شركة ألمانية واحدة متعددة الجنسيات على نقل مقرها إلى شرق البلاد.يبلغ متوسط عمر الرجال في شرق ألمانيا 77.2 عام، ما يقل بمقدار 18 شهراً تقريبا عن الذكور في غرب ألمانيا. ومع هذا، نجد أن السكان في الشرق أكبر سناً عن سكان غرب البلاد. ويعود ذلك إلى توجه طويل الأمد يشهد تراجعاً في أعداد السكان.أما الشباب، فيواجهون ضغوطاً اقتصادية تدفعهم للرحيل، ذلك أن معدلات بطالة الشباب البالغة 8.4 في المائة لا تزال نحو ضعف المستوى الغربي، رغم تراجع الفجوة العامة في البطالة. ورغم أنه من الناحية الإحصائية توقفت الهجرة من الشرق إلى الغرب، وتبقى برلين وولايتا ساكسونيا وبراندنبورغ القريبتين منها المناطق الوحيدة الجاذبة لأعداد أكبر من الأفراد من الغرب عما تفقده.ومع هذا، تظل أكثر الاختلافات جلاءً بين الأفراد الذين يعيشون في شطري ألمانيا في أسلوب عمل الأسر. فتعمل قرابة 39 في المائة من نساء شرق ألمانيا ممن لديهن أطفال تقل أعمارهم عن 3 أعوام في وظائف بدوام كامل، مقارنة بـ19 في المائة فقط في الغرب. كما أن ربع أسر ألمانيا الشرقية و17.5 في المائة فقط من أسر غرب ألمانيا تعتمد على أحد الوالدين.ولا يمكن إيعاز هذه التباينات إلى التخلف الاقتصادي النسبي في الغرب، وإنما إلى تباينات ثقافية. عندما كانت المساواة بين النوعين هدفاً للسياسات قبل أن ينفتح الغرب على الفكرة، كانت النساء أكثر ميلا للعمل بدوام كامل حتى عندما كان أطفالهن صغاراً. وقد وثقن في اضطلاع الدولة برعاية صغارهن أثناء العمل، ولم يعتمدن كثيراً على الآباء. ويبدو أن هذا التوجه انتقل إلى الأجيال التالية.ولا يزال لدى أبناء شرق البلاد تفضيل ثقافي قوي للمساواة، ولا يزال مستوى التفاوت الاقتصادي في الولايات الشرقية أقل عنه في الغرب.أما التعاسة النسبية التي يشعر بها أبناء شرق ألمانيا فربما تعود إلى مزيج من عوامل اقتصادية وثقافية. وبينما غالبية أبناء غرب ألمانيا يشعرون أن هناك ما يستدعي الاحتفال في «يوم الوحدة الألمانية»، فإن أقلية في الشرق يشاركونهم الشعور.بطبيعة الحال، تؤدي الفجوات الاقتصادية والاجتماعية والاقتصادية إلى تباين في أنماط التصويت. تاريخياً، أبلى «الحزب اليساري الألماني»، وريث الحزب الشيوعي، بلاءً أفضل في الولايات الجديدة عنه في الغرب، إلا أن مزيجاً من الدخول الأقل والهياكل الديموغرافية الأقل إيجابية والإرث الشيوعي المستمر لا يمكنها أن تفسر بصورة كاملة صعود «حزب البديل من أجل ألمانيا» إلى المرتبة الأولى في استطلاعات الرأي. ولا يمكنها كذلك تفسير التراجع العام في شعبية الائتلاف الحاكم الممزق المؤلف من الديمقراطيين المسيحيين والديمقراطيين الاشتراكيين. في المقابل نجد أنه في الغرب، لا يزال التحالف يحظى بشعبية.ومن المحتمل أن يكون ثمة عاملان وراء صعود القوميين في الشرق؛ أولهما أنه لدى أبناء شرق البلاد عدم ثقة أكبر تجاه النظام الحاكم ومؤسساته، الشرطة والمحاكم والإعلام والحكومة الفيدرالية.ولا يتعلق هذا الأمر بالإرث الشيوعي فحسب، وإنما نجد أنه منذ توحيد شطري ألمانيا، لم تشهد أعداد أبناء شرق ألمانيا الذين يتقلدون مناصب رفيعة في الحكومة والنظام القضائي زيادة تذكر. العام الماضي، لم يكن أي من أبناء ألمانيا الشرقية بين كبار القضاة الفيدراليين، بجانب أنهم شكلوا 1.6 في المائة فقط من كبار مديري الشركات، و1 في المائة من أصحاب رتبة الجنرال والأدميرال و7 في المائة من الوزراء في حكومة ميركل.أيضاً، يبدو صعود شعبية حزب معادٍ للهجرة مثل «البديل من أجل ألمانيا» أمراً طبيعياً بالنظر إلى أنه من الناحية التقليدية كان لألمانيا نصيب أقل من المهاجرين، نحو 7 في المائة داخل الولايات الجديدة، مقارنة بـ12 في المائة في ولايات غرب ألمانيا سابقاً. وبينما ربما تأججت مشاعر كراهية الأجانب في الشرق سابقاً لندرة الاتصال بهم، فإنها اليوم مشتعلة بسبب وجودهم بأعداد مفرطة.* بالاتفاق مع «بلومبرغ»
مشاركة :