انشغلت مواقع التواصل الاجتماعي في الأيام الأخيرة بصور وأقوال وسرد تاريخي للزعيم العربي الراحل جمال عبدالناصر، فتساءلت: «لماذا هذا الاحتفاء بعبدالناصر هذه الأيام على وجه التحديد وبعد مرور ما يقارب النصف قرن من وفاته؟ ولماذا يفيض هذا الحب كاحتفاء شعبي بقائد عربي لا يتكرر؟». في اعتقادي أن عبدالناصر هو أهم زعيم عربي في العصور الحديثة، حيث أشاد به أعداؤه قبل أصدقائه. نورد هنا بعض آراء الصحف الأجنبية بعد ساعات من وفاته، وكان المراسلون الغربيون قد جاؤوا الى مصر لتغطية أخبار جنازته التي شارك فيها ستة ملايين مواطن مصري وحشود من رؤساء وقادة دول العالم الثالث: قالت مجلة النيوزويك الأمريكية:«لم يشهد العالم جنازة بهذا الحجم، جنازات كنيدي وستالين وأتاتورك تبدو كصور فوتوغرافية اذا ما قورنت بجنازة عبدالناصر. لقد أحس العرب أنهم فقدوا الأب والحامي لهم»، وقالت الجاردين البريطانية «جنازة عبدالناصر اكتظت بالحشود الباكية، ولم يذكر التاريخ جنازة بهذا الحجم، الجنازة المذهلة الأكثر إثارة في العصر الحديث، ملايين المصريين خرجوا لوداع زعيمهم الى جانب حشود من القادة وزعماء العالم». وقالت التايمز: «إذا كانت عظمة الرجال تقاس بالفراغ الذي يتركونه بعد موتهم، فإن ناصر هو أعظم الرجال، فقد كان تأثيره كبيرا يمد ظلاله من الشرق الأوسط على قارات المنطقة، محتلا مكانة كبيرة». الواشنطن بوست قالت: «لقد اختطف الموت ناصر وهو يحاول حقن الدماء في الأردن، لقد كان دائما في القمة، وسجل له التاريخ مآثر كثيرة»، النيوز ويك: «رأينا في مصر ثلاثة أنهار نهر النيل ونهر البشر ونهر الدموع»، وأفضل ما قيل عن موت عبدالناصر جاء من الكاتب الأمريكي المعروف توماس فريدمن الذي قال: «يبدو أن عبدالناصر الرمز سيبقى عصيا على الموت والغياب بشخصيته المتفردة، عاش بمقاييس الزمن فترة قصيرة مثلت فصلا استثنائيا في التاريخ العربي كله. زعيم استثنائي أعطى أمته يقينا متجددا بأنها موجودة». لقد عشنا نحن جيل عبدالناصر بهذا اليقين، فالكاتب فريدمن لم يبالغ فيما ذهب إليه، أحسسنا مع هذا اليقين الذي زرعه فينا عبدالناصر أننا أمة عظيمة قادرة على الإنجازات الكبيرة والإستثنائية. عبدالناصر فجر كل طاقات العرب التي دفنها الحكام العرب والعثمانيون منذ قرون. أحسسنا مع عبدالناصر بقوتنا، فقد كنا نسمع هدير الثورات العربية التي تزامنت معه وتبعت ثورته. كان الوطن العربي بحرا هائلا هائجا يمور ويصطخب في المشرق والمغرب. مع عبدالناصر لمسنا القمر وقطفنا النجوم، واعتلينا الشمس والجبال. غنينا للجزائر (بلد المليون شهيد) الثائرة على الاحتلال الفرنسي: يا طير يللي طاير/ فوق أرض الجزائر/ سلم على جميله وجيش التحرير الثائر، وهتفنا سعداء وجامحين: رحنا نحمي القاهرة / ولقيناها محمية / حاميها عبد الناصر/ والشبيبة القومية، ورفعنا شعارات مكتوبة: يافا لنا في الشط موعدنا ولو جن الأعادي/ في العيد عيد الوحدة الكبرى أضمك يا بلادي/ سليمان العيسى؛ وشعار آخر: سأحمل روحي على راحتي وألقي بها في مهاوي الردى / فإما حياة تسر الصديق وإما ممات يغيظ العدى / عبدالرحيم محمود. كانت سنوات الجمر واليقظة والانبعاث، وكان كل الوطن العربي يشهد الثورات والمسيرات، أمة كبيرة عربية واحدة تحت راية عبدالناصر، أمة أفاقت بعد قرون من النوم. أحسسنا مع عبدالناصر أننا سننتصر على كل الأعداء والأنظمة البائدة والمستبدة. لكن ما الذي أعادنا الى عبد الناصر في العام 2018؟ إنها الكوارث التي تتزاحم في وطننا العربي، فالاحتلالات الأجنبية التي حاربها عبدالناصر بشدة حتى غادرت، عادت إلينا في الأعوام الأخيرة وإن بصورة أخرى وثوب جديد. تذكرني عودة العرب الى رحاب عبدالناصر هذه الأيام ببيت الشعر العربي الذي يقول: سيذكرني قومي إذا جد جدهم / وفِي الليلة الظلماء يفتقد البدر. كان عبدالناصر هو البدر الذي يرسل ضوءه الى كل المدن العربية من الدار البيضاء الى المنامة. كان عبدالناصر سيجنبنا هذه المآسي لو لم يأخذه القدر قبل أن يكتمل مشروعه القومي الذي جعلنا عبدالناصر نلمسه لمس اليدين. لم يهتم زعيم عربي بالعرب وقضاياهم المصيرية، كما فعل عبدالناصر. لم نشعر في أيامه أنه زعيم إقليم عربي واحد. كان نزوعه القومي كبيرا وشغله حتى عن الداخل المصري، فأخذها البعض مأخذا عليه وقالوا إن عبدالناصر لم يلتفت الى الداخل المصري بقدر اهتمامه بالشأن العربي. وأعتقد بصورة أو أخرى أن في هذا الرأي دليلاً على نزوعه القومي الذي غطى ماعداه، لكن عبدالناصر اهتم بالشأن الداخلي الإقليمي في مصربشكل استثنائي أيضا، فأنجز الكثير من المشاريع التنموية والاجتماعية كما سنوضح لاحقا. الصورة الأخيرة التي وصلتني عن أيام عبدالناصر على مواقع التواصل الاجتماعي هي للشعب البحريني وهو يخرج بأعداد كبيرة في جنازة رمزية يودع بها الزعيم الخالد. الصورة تجسد لنا أمورًا كثيرة نحن جيل عبدالناصر، وهي تروي جزءًا من تاريخنا الحديث، واستطرادا مع الصورة تجسمت في عقلي مفارقات تخص الشأن الوطني والقومي، فهذه الأعداد الكبيرة في المسيرة تبين لنا حجم الشعور القومي عند جيلنا ومدى ارتباط أهل البحرين بالشأن العربي. ما أحوجنا اليوم الى الاتحاد - إن لم تكن الوحدة - لكي لا يستفرد بِنَا الأعداء المحيطون بِنَا من كل جانب.
مشاركة :