«وفي الليلة الظلماء يفتقد البدر» «2»

  • 10/27/2018
  • 00:00
  • 15
  • 0
  • 0
news-picture

إنجازات عبدالناصر لم تكن قومية فحسب كما يزعم البعض، بل كانت كبيرة في الداخل المصري: في مشروع الإصلاح الزراعي وزع عبدالناصر أراضي على الفلاحين الذين لا يملكون أرضا، ويعملون في أراضٍ إقطاعية كالأقنان، كان عبدالناصر أكثر زعيم عربي يهتم بالطبقات الفقيرة التي كان يعرف معاناتها، فهو ابن موظف صغير في البريد. وكانت مفاجأته الصاعقة عندما أمم قناة السويس ليحصد مداخيل كبيرة لبلاده. كانت حصة مصر من دخل قناة السويس زهيدة جدا، وكانت الدول الغربية (بريطانيا وفرنسا) تريدان تدويل القناة للسيطرة عليها. ثم بدأ عبدالناصر بنهضة صناعية هائلة تجسدت في إنشاء 1200 مصنع ومجمع صناعة الألومنيوم، ومصانع الحديد والصلب، وفي عهده أصبحت مصر تملك أكبر قاعدة صناعية في العالم الثالث، كما أصبح التعليم مجانيا كالماء والهواء. يقول الناقد الكبير جابر عصفور: في عصر عبدالناصر ازدهرت الثقافة وانتشر التعليم، كان يبني مركزا تعليميا وثقافيا عند كل مصنع، بذلك يرى عصفور أن عبدالناصر كان يربط التصنيع والإنجاز بالتعليم والثقافة والوعي، وكانت تلك العلاقة الوثيقة بين الثقافة والتنمية غير واضحة في العالم الثالث في ذلك الوقت. وكان اهتمامه بالطبقات الفقيرة شاملا، فحرص على أن تكون نصف مقاعد مجلس الأمة من نصيب العمال والفلاحين. ثم بنى عبدالناصر السد العالي لحماية الناس من فيضان النيل وتوسيع الرقعة الزراعية، وتوليد الكهرباء. وعندما أمم قناة السويس تضررت مصالح إنجلترا وفرنسا وإسرائيل، فشنت عليه هذه الدول حربا عرفت بحرب قناة السويس. وحين أمم عبدالناصر قناة السويس غضب رئيس الوزراء البريطاني أنتوني إيدن وقال: إن هذا المصري يضغط بإصبعه على قصبتنا الهوائية، وأضاف «أريد رأس عبدالناصر، أريده جثة أمامي»، لكنه اضطر إلى أن يستقيل من منصبه بعد فشله في حرب السويس. ذهب إيدن وبقي ناصر، انهزم إيدن والغرب، وانتصرت مصر وعبدالناصر. على المستوى القومي انشغل عبد الناصر بالقضية الفلسطينية أكثر من أي زعيم عربي آخر، واعتبره الزعماء اليهود في إسرائيل عدوهم الأول. اشترك عبد الناصر في حرب 1948، وجرح فيها فنقل الى مصر للعلاج، وتوقع زملاؤه في الحرب أنه لن يعود، لكنه عاد إليهم ليحارب ويقود جنوده. ساعد عبدالناصر الجزائر في ثورة المليون شهيد ضد الاحتلال الفرنسي (نالت الجزائر استقلالها في عام 1962)، ما أغضب فرنسا عليه. وأرسل عبدالناصر جيشه ليحمي الثورة اليمنية الوليدة، وسعى إلى الوحدة بين مصر وسوريا والعراق. لم يكن عبدالناصر زعيما عربيا فحسب، بل كان بطلا ملهما لشعوب العالم الثالث أيضا، فقد ساند ثورات التحرر في أفريقيا، وهاجم بعنف النظام العنصري في جنوب أفريقيا من على منصة الأمم المتحدة والمحافل الدولية. قال الزعيم نيلسون مانديلا وكان في السجن حين صعود نجم عبدالناصر: كنا نحلم أن يأتينا عبدالناصر محررا. وعندما زار نيلسون مانديلا مصر بعد خروجه من السجن، توجه من المطار مباشرة الى ضريح عبدالناصر. كان مانديلا يقول: أنا ناضلت لتحرير بلادي، وعبدالناصر ناضل لتحرير العالم الثالث كله. الروائي المصري المعروف بهاء طاهر زار أحد البلدان الأفريقية مع بعثة من اليونيسكو عندما كان موظفا فيها، يقول زرنا قرية نائية ففوجئت بصورة عبدالناصر ملصقة في محل صغير في القرية، فدفعني الفضول وسألت صاحب المحل: من هذا الرجل؟ فقال لي: هذا أبو أفريقيا. يقول بهاء: امتلأت فخرا وكان معظم أعضاء البعثة من الغربيين. عبدالناصر أسس مكانة رفيعة للعرب في العالم، خصوصا في العالم الثالث. كما عرفه الغربيون ندا لهم وذا تأثير بالغ في العالم العربي وأفريقيا وآسيا، ووصل صيته ثائرا ومنافحا شديد لأمريكا والإمبريالية في أرجاء كل العالم كله، من كوبا في قارة أمريكا اللاتينية الى إندونيسيا في آسيا الى القارة الأوروبية وأمريكا. وبعد انتصارالثورة الكوبية (1959) أرسلت الحكومة الكوبية الثائرالعالمي أرنستو تشي جيفارا الى مصر للاستفادة من مشروع عبدالناصر في الإصلاح الزراعي ومد جسور التواصل بين ثورتين من العالم الثالث. كانت آنذاك فترة الانتخابات الرئاسية في مصر، فقال له جيفارا قبل أن يغادر مصر: لوكنت مصريا لأعطيتك صوتي، كل أحرار وثوار العالم يمنحونك صوتهم، ثم كانت مساهمة ناصر في تأسيس منظمة الحياد الإيجابي لدول العالم الثالث التي كانت ترفض الانحياز الى الكتلتين الكبيرتين في الحرب الباردة، فأثارت هذه الخطوة غضب أمريكا والغرب، وكانتا تحاولان تجيير دول الشرق الأوسط لتنحاز إليها في المحافل الدولية وفي الصراع الدائر بينها وبين الاتحاد السوفيتي. وعندما أعلنت أمريكا سياسة ملء الفراغ في الشرق الأوسط، بعد رحيل الاستعمار التقليدي (بريطانيا وفرنسا)، قال عبدالناصر لأمريكا ما مضمونه: لا نحتاج إليكم، نحن نملأ الفراغ في بلداننا. كانت معاملة عبدالناصر لأمريكا والغرب بندية وثقة واعتدادا بالنفس إحدى أسرار شعبيته منقطعة النظير في الوطن العربي والعالم الثالث، خاصة في أفريقيا التي ساند ثورات التحرر فيها، بالإضافة الى أمريكا اللاتينية التي كانت تكافح النفوذ الأمريكي في بلدانها. كان عبدالناصر أحد أبرز زعماء منظمة الحياد الإيجابي مع نهرو (الهند) وتيتو (يوغسلافيا) وسوكارنو (إندونيسيا). عبدالناصر لم يعتبر أموال الدولة ملكا خاصا له. في كتاب (الرئيس الذي لم يسرق) إصدار دار المعارف، ذكر الكاتب أن رصيد عبدالناصر في بنك مصر كان 3700 جنيه مصري و37 قرشا فقط عند وفاته.

مشاركة :