التنظير هو محاولة قراءة فكرية تسعى إلى البحث في كيفية التعامل مع الأطروحات النظرية واحتمالات تطبيقها والنظر في العلاقة بين الأشياء، اجتماعيا وثقافيا وفكريا وسياسيا، في مهمة عصف ذهني مستميت أحيانا للوصول إلى الأفضل والأصلح، ولو بنسب توازي الهدف المنشود. والتنظير مهم لبناء الحضارات وتقدمها، لكنه يبقى مرهونا بمدى مساحة التطبيق والتراكمات الكمية لدى المنظرين عن الأشياء وحقيقتها ومقتضى الحاجة إليها، ومدى قدرة المنُظّر على تقديم تطبيق مواز للتنظيرات التي يطلقها، لأن السؤال الذي سيواجهه دائماً وأبداً من الآخر هو: هل تفعل وتطبق أنت ما تقول؟ وهذا السؤال في الواقع على الرغم من خطأ منهجيته البحثية إلا أنه يبقى ردة فعل مبررة، في محاولة لطلب الدليل التطبيقي على ما يقول به المنظر، فالشارع في النهاية يحتاج إلى ذلك كمطلب يفرضه المنطق، وإلا فإن خسائر المنظر ستكون فادحة، وهذا لا يعني بأي حال أن يتوقف التنظير ويختفي المنظرون، فنحن بالتأكيد بحاجة إلى هذا، لكن الإشكالية تكمن في أن يتسارع حجم نمو التنظير والمنظرين، ويطغى على حجم ونمو التفاعل التطبيقي الفعلي، حتى لا نصل في النهاية إلى تكوين مجتمعات صورية هشة، ترتفع فيها نسبة الخيال على الواقع بمراحل. أعرف عددا من الأصدقاء والزملاء والزميلات في مختلف الأوساط الإنسانية، لا هم لهم إلا استحضار النظريات والتجارب الإنسانية العالمية، والعمل على تفكيكها كما (يفكرون ويعتقدون)، ثم تراهم يروجون لها في كل مجلس، لكن التطبيق على مستوى حياتهم - وحتى لا أكون مجحفا - سأقول إنه شبه غائب تقريبا، فالسياسي ينظّر والمثقف ينظّر وحتى الحلاق بات منظّرا، باختصار بات الكثير ينظّر..! وهذا مؤشر يحمل دلالات خطيرة، لما بات يحتله من مساحة كبيرة من التوجه الفكري لدى الشارع، وهو ربما انعكاس لانفتاح المجتمعات على بعضها بطريقة سريعة جدا ومفاجئة، وكم المعلومات الهائل المتبادل فيما بينها، وسخر لهذا الانتشار واتساعه سهولة وسرعة نقل المعلومة الصائبة والخاطئة معاً، عبر وسائط النقل والاتصال الحديثة. التنظير لوحده فقط لن يبني حضارة المجتمعات الإنسانية، بقدر ما يعمق الهوة بين الإنسان ذاته وسلسلة احتياجاته، ويجعله ذلك الموعود بالخيال على الدوام، وقد لا يستطيع المُنظّر تطبيق جزء كبير مما يقول به، لظروف اجتماعية أو سياسية أو فكرية معينة، كوسيلة دفاع عن النفس، كتلك التي اتخذها (جاليليو) بضغط من تلامذته، لينجو من حكم الإعدام. لكن المُنظّر الكذاب والبعيد عن أرضية الواقع سرعان ما يترنح ثم يسقط من أول اختبار، وحينها يقع في فخ الأنا فيقصيك إلى أحد القطبين المتجمدين من العالم، ثم لا يلبث أن يلقي عليك تهمة الرجعية والتخلف! ولا يبتعد الأمر عن التنظير السياسي المستفز أحيانا، وهو أحد أهم المآزق التي يعيشها الشارع العربي، كمثال قوي على حالة التنظير العامة التي يعيشها الواقع العربي، فالعرب على الصعيد السياسي على سبيل المثال يرغبون في الانتقال إلى نظام الدولة المدنية الحديثة، دون أن يمروا ببناء الفرد والمجتمع، وكأنهم يجهلون أن البناء يبدأ من الأسفل وليس من الأعلى! وهذا مرده إلى تبسيط المنظرين لهذه العملية السياسية الضخمة، في قراءة متعالية على أصغر علامات حالة المجتمع بطيء الحركة.. هكذا ببساطة ستجد الكثير من البائعين المتجولين للتنظير. وفي "تويتر" ستجد الكثير من التناقضات وكثيرا من المنظرين في كل المجالات تقريبا، يساعدهم على ذلك سمعة "تويتر" النخبوية، والاعتقاد أن النخبوية تقتضي أن تكون ذا رأي مخالف ومختلف وإن أغضب العالمين، أو كان مجانبا للصواب، ومتعارضا مع القيم والأخلاق.
مشاركة :