تلعب المنتجات الصينية على الأسعار لاقتحام الأسواق وخاصة في دول العالم الثالث، ففي مصر اجتاح الأسواق حذاء رخيص بمواصفات أقل قيمة من المنتجات المصرية، خاصة تلك التي تصنعها أياد مصرية بمهارة، وأقبل المصريون على النعل الصيني لأنه يستجيب لمقدرتهم الشرائية دون البحث في مضارّه الصحية مثلا، هذا الإقبال يهدد الإسكافيين بالإفلاس أو يجبرهم على خيار صناعة أحذية دون مواصفات ترضيهم. القاهرة - على سطح إحدى البنايات القديمة في قلب العاصمة المصرية، يقبع الحرفي المصري، سيد رأفت، و5 آخرون في ورشات صغيرة متجاورة تعمل في صناعة الأحذية اليدوية، وهي مهنة تواجه حاليا اندثارا محتملا بعدما غزا المستورد أرجاء البلاد. في حارة “بئر حمص”، التابعة لحي باب الشعرية، وسط القاهرة، وفوق كرسي خشبي، مثبتا أمامه ماكينة خياطة تقليدية في حجرة قديمة مسقوفة بالصاج والأخشاب، يجلس رأفت، الإسكافي، يخيط ما بيده ويتابع ما يفعله زملاؤه ويحفز هممهم للانتهاء من إحدى الشحنات من أجل تسليمها للمعارض. العمال الخمسة الآخرون، كل منهم يسابق الزمن لينجز مهمته، فيسلم أحدهم قطع الجلد التي في يده إلى زميله برشاقة بعد أن ينتهي من معالجتها في المرحلة المختص بها، لتدخل مرحلة أخرى قبل أن تصبح في النهاية حذاء منمقا، صنع باليد لم تتدخل فيه الآلات إلا في خياطة ما يحتاجه وجهه فقط. بلهجة واثقة ويد تمرر الجلد أسفل إبرة ماكينة الخياطة، يقول رأفت، إن أسرته تعمل في صناعة الأحذية اليدوية منذ عشرات السنين، إلا أن عمه أنشأ هذه الورشة قبل 25 عاما، وقبلها كانوا يعملون في ورشات بالأجرة. يوضح رأفت، أن المهنة تمر بعدة مراحل رئيسية تبدأ من “التفصيلجي” الذي يقوم بقص ما يحتاجه الحذاء من الجلد حيث يقتطعه من لفافات جلدية عريضة، بواسطة “اسطمبات” يحدد عليها شكل الحذاء، مرورا بـ”المكنجي” الذي يجمع قطع الجلد مع بعضها ويرفقها بالإكسسوارات اللازمة. يذهب المنتج بعد ذلك إلى “الجزمجي” الذي يكمل صناعة ما بقي من نعل الحذاء ويقص الزوائد فيه، ثم يودعه صندوقا ورقيا جاهزا للعرض. غالبية الأحذية المستوردة تدخل في خامتها الأساسية منتجات بترولية تؤثر على الساق وعلى مقعد خشبي متهالك في الجهة المقابلة لرأفت، يجلس عبدالله صالح (45 عاما) يحاول تجميع ما أنتجه زملاؤه وتركيب نعل بلاستيكي، وبطانة من القماش المرن أو من القطن، بواسطة مادة الغراء، وهي مستحضر لاصق أبيض اللون يستعمل مع البلاستك. مهنته في عرف صناع الأحذية يطلق عليها “جزمجي” يقول، إنه يعمل في هذه المهنة منذ أن أصبح يتحمل المسؤولية كاملة، وبدأ يشارك والده في الإنفاق على المنزل، وما تحتاجه أسرته المكونة من خمسة أفراد. يمسك صالح حذاء أسود في يده ويقول، “نهاية هذه المهمة عندي؛ أُثبت النعل مع وجه الحذاء بمسامير صغيرة، مستعينا بمجسم خشبي يشبه القدم، مع إضافة مادة الغراء”، ثم يمرر الحذاء عدة مرات فوق شريط من لهب، يخرج من موقد صغير أمامه. ثم ينتزع صالح المسامير التي وضعها، ويحاول قص الزوائد الموجودة بالحذاء، ويعيد طلاء نعله بمادة “الكولا البيضاء” (مسحوق سائل يشبه اللبن) ثم ينتزعه من المجسم ويضعه في صندوق ورقي. كغيرها من الصناعات اليدوية في مصر، تعاني صناعة الأحذية من المنتجات المستوردة من دولة الصين، بسبب رخص أسعارها وإقبال غالبية الزبائن عليها، وهو ما اضطر مالك الورشة إلى الاتجاه نحو الجلد الاصطناعي بديلا عن الطبيعي. يقول رأفت، “منذ 15 عاما، اتجهنا إلى الجلد الاصطناعي بسبب ارتفاع أسعار الطبيعي وقلة المعروض منه في أسواق الجلد، وننتج حاليا 90 بالمئة من الجلد الاصطناعي والباقي من الطبيعي”. ويؤكد بلهجة يملؤها الحنين إلى الماضي، أن إنتاج أحذية الجلد الطبيعي بات مغامرة صعبة، لأن الحذاء الواحد يتكلف قرابة 250 جنيها (14 دولارا أميركيا تقريبا)، وبعد المرور بعدة مراحل قد يصل إلى يد المستهلك بحوالي 450 جنيها (26 دولارا) وهو ما يجعله قريبا في السعر من الأحذية الإيطالية المستوردة، وفي الوقت الحالي لا تقدر إلا فئة قليلة من المصريين على شرائه بسبب تراجع معدلات الدخل، والأزمة الاقتصادية. إنتاج أحذية الجلد الطبيعي بات مغامرة صعبة بسبب ارتفاع أسعارهاإنتاج أحذية الجلد الطبيعي بات مغامرة صعبة بسبب ارتفاع أسعارها وفي مصر يعيش نحو 5.3 بالمئة من السكان تحت خط الفقر المدقع أي 4.7 مليون مواطن ويبلغ متوسط دخل الفرد في هذه الفئة 322 جنيها شهريا، لتصل نسبة الفقراء إجمالا إلى 27.8 بالمئة في 2015 وفق إحصاء للجهاز المركزي للتعبئة العامة، والإحصاء صادر في 2016. يحاول رأفت ورفاقه مجاراة التكنولوجيا قدر المستطاع بالتطوير في أشكال الأحذية وخاماتها، مؤكدا أن الأحذية اليدوية تتفوق على ما ينتجه المصنع في الخامة والجودة، فغالبية المستورد أو المصنوع آليا تدخل في خامته الأساسية منتجات بترولية، تؤثر على الجلد، لذا يحرص في ورشته على أن يكون الحذاء من الجلد الاصطناعي ومبطنا بالقطن. ويشير إلى أن ورشته تنتج 6 “طرائح” يوميا أي ما يساوي 60 حذاء، تتراوح أسعار الطرحة الواحدة ما بين 700 و750 جنيها مصريا (39 إلى 42 دولارا تقريبا). ويلفت إلى أن المهنة كانت لفترة كبيرة تعاني من قلة اليد العاملة، لكن الحرفيين الآن تغلبوا على ذلك بتدريب عدد كبير من الشباب. يقول رأفت، “مع ارتفاع أسعار الدولار مقابل العملة المحلية بموجب قرار حكومي بتحرير أسعار الصرف، في نوفمبر 2016، تراجعت المهنة بشكل كبير لكون غالبية الخامات مستوردة، وهو ما ساهم في ارتفاع الأسعار وبالتالي عزوف المستهلك”. ويضيف رأفت، يعتمد صانعو الأحذية اليدوية (الإسكافيون) في القاهرة على تاريخ منطقة “باب الشعرية”، حيث إن 95 بالمئة من السكان هنا يعملون في الأحذية، لذا يقصد المنطقة أغلب الزبائن سواء من التجار لشراء كميات كبيرة بنظام الجملة، أو من الأسر التي ترغب في اقتناء منتج متين وسعره مناسب.
مشاركة :