مبدع يخترع مبدعا.. أين الغرابة؟

  • 11/6/2018
  • 00:00
  • 3
  • 0
  • 0
news-picture

غريب أمر أولئك الذين يجرّدون الإنجازات العلمية من صفاتها الإبداعية والفنية وقيمها النفعية. أليس العقل البشري الذي اخترع الفرشاة واللون والقماش هو نفسه الذي اخترع الكمبيوتر؟ من أين جاء هذا الاستغراب والاستهجان، وصيحات الفزع لدى الفنانين الناكرين لنعمة العلم حول الظهور الحديث لتصميم خوارزميات على الكمبيوتر يمكنها أن تعيد رسم لوحات أصلية تشابه أعمال كبار الفنانين مثل رامبرانت وغيره؟ عدم الاعتراف بالمنجزات الرقمية في الفن الذي لا يمكن إهمال دوره النفعي والاستعمالي، يشبه كما لو أن العالم أدار ظهره لآلة التصوير، وظل لا يعترف إلا بالبورتريهات اليدوية، كأن تقبل بالجلوس الطويل أمام رسام في سبيل الحصول على “صورة شمسية” لأجل استخراج أوراق رسمية ووثائق ثبوتية. نعم، إن الخوارزميات الإلكترونية صار بإمكانها أن تحل محل الريشة والألوان دون أن تعلن عن تقاعد الفنان أو موته أو الانقلاب عليه، لا بل هي تريحه وتكرمه وتختصر عليه الطريق، تماما كما فعلت الآلات الحاسبة والناسخة والكاتبة والناحتة بالتقليديين اليدويين من محاسبين وناسخين ووراقين في الماضي. هل نسي الإنسان أن الكمبيوتر هو من أبهى وأعظم الإبداعات البشرية شكلا وحاجة وتصميما ومضمونا، وأن الإنسان إنما خُلق كي يدهش نفسه ويتفوق عليها، فلم الغرابة؟ ألم يكن كبار المبدعين يقيسون أعمالهم الفنية، ويدرسون المنظور الهندسي بالمسطرة والبركار، ويستنجدون بأدق الحسابات الهندسية والمقاييس الفيزيائية والتفاعلات الكيميائية في خلط الألوان وتوازن الكتل ضمن علاقاتها بالفراغ؟ وليس الكمبيوتر في عصرنا الحديث إلا اختصارا لهذه المعادلة التي تسكن عقل ووجدان فنان عصر ما قبل الثورة المعلوماتية. ولو كان رامبرانت حيا لاستغرب من استغرابنا لهذا المنجز العلمي العظيم، والمتمثل في إعادة رسم لوحاته وفق خوارزميات دقيقة. هل تناسينا أن ليوناردو دي فنتشي، كان ميكانيكيا وفيزيائيا لا يشق له غبار؟ وكذلك ميكائيل أنجلو ورافئيل، وغيرهما من فناني عصر النهضة؟ ولم يتخلّ هؤلاء العباقرة عن النسب الطبيعية والأبعاد الرياضية في محاكاتهم للطبيعة، ومحاولاتهم للتغلب على مشكلات الواقع المنظور وتقديمه بشكل فني. الآلة لا تصنع فنا بالتأكيد، ولكن الذي يصنع الفن هو ذاك الذي يقف خلف الآلة، وإلى جانبها وأمامها، صناعة وإتقانا ورعاية وتذوقا يُرجع مؤرخو تلك الفترة ذلك إلى تأثر عدد من أهم فناني عصر النهضة بالرسام الإيطالي بييرو ديلا فرانشيسكا (1416 – 1492)، والذي بسبب اهتمامه بالرياضيات، تميزت لوحاته بصرامة هندسية تراعي نظريات المنظور في تصوير الأشياء، كما اعتمد على الألوان الناصعة والناعمة؟ أليست هذه مهمة الكمبيوتر؟ وإلى جانب فرانشيسكا، كانت هناك شروحات المعماري فيليبو برونليسكي (1377 – 1446)، وتنظيرات ليون باتيستا ألبيرتي (1404 – 1472) لتطوير المنظور الخطي الواقعي. فبعد كل هذه الحقائق الدامغة، ما حجة المتبجحين بشعارات جوفاء مفادها أن العلم والتكنولوجيا في حل عن الإبداع الإنساني في شتى أجناس الفن؟ الآلة لا تصنع فنا بالتأكيد، ولكن الذي يصنع الفن هو ذاك الذي يقف خلف الآلة، وإلى جانبها وأمامها، صناعة وإتقانا ورعاية وتذوقا. لا بدّ من القول، وعلى سبيل الاعتراف، إن المنشغلين بالحقل الفني والإبداعي، تغلب عليهم عادة الحالة النرجسية دون سبب مقنع، “يغارون” من الآلة التي يرونها تتطاول على منجزاتهم. كأن بعض الفنانين يخشون من ظهور “زميل منافس” اسمه الكمبيوتر، يشاركهم العضوية في النقابة وقد يترشح لرئاستها، كما يمكن له أن يحظى بتوقيع الأوتوغرافات للمعجبين والمعجبات، وقد يزداد رصيده البنكي ويتضخم بفعل مبيعات اللوحات التي ينجزها أو يستنسخها. الإنسان كائن أناني ومتوجس بطبيعته، لذلك يدق ناقوس الخطر والإنذار لمجرد ظهور ما يمكن أن يهدد كينونته، وإن كان على طريقة أسطورة “بيغمليون” النحات اليوناني الذي عشق منحوتته إلى حد الجنون، أو قصة مايكل أنجلو الفنان الإيطالي الذي نحت تمثال “موسى” بغرائبية مدهشة في التفاصيل الممتدة من إصبع القدم إلى غرة الشعر. وحدهم الفنانون الحقيقيون هم الذين راقت لهم معادلة التطوير العلمي للفعل الإبداعي، ولم يروا أي تناقض بين الاثنين. ويقول هوغو كازيل دوبر، مهندس الكمبيوتر الذي أسس مجموعة أصدقاء رامبرنت، مع صديقي طفولته غوتييه فيرنيير وبيير فوتريل، “نحن فنانون بنوع مختلف عن ريشة الرسم.. ريشتنا هي خوارزمية نطوّرها على جهاز كمبيوتر”.

مشاركة :