برسم صانع القرار العربي في خضم الأزمة | وائل مرزا

  • 1/18/2015
  • 00:00
  • 11
  • 0
  • 0
news-picture

من الأرجح أن المواطن العربي العادي لا يعرف أن فلاديمير بوتين يُمولُ حزب الجبهة الوطنية الفرنسي اليميني المتطرف. لكننا نرجو أن يكون صانع القرار العربي مُدركاً لهذه الحقيقة. الخبر ليس إشاعةً. فقد أقرت به رئيسة الحزب مارين لوبان. لا يقتصر الأمر على الحزب المذكور فقط، وإنما يمثل حلقةً من عمليةٍ استراتيجية تقوم بها روسيا لإقامة علاقات وثيقة مع أكبر عدد ممكن من الأحزاب المتطرفة، يميناً ويساراً دون تفريق. يتضمن هذا زيارات متبادلة وتنسيقاً ولقاءات على مختلف المستويات، وبطبيعة الحال، تمويلاً متنوع الوسائل. وقد أصبح الأمر ظاهرةً بدأت التقارير الإعلامية والاستخبارية الغربية تتحدث عنها، مع تفاصيل خطيرة عن تلك النشاطات والمشاركين فيها من مختلف الدول الأوربية، خاصةً مع وصول تلك الأحزاب للسيطرة على أكثر من خُمس مقاعد البرلمان الأوربي الحالي. لسنا هنا في معرض توظيف الحقيقة المذكورة، والمقال بأسره، للحديث العاطفي الذي يندرج في التعليقات السائدة عن أحداث فرنسا بأسبابها وطبيعتها ومستتبعاتها. ولا لنفي مأزق العرب والمسلمين فيما يتعلق بفهم الإسلام المشوه السائد، وعلاقة هذا الفهم بالتطرف والإرهاب. وإنما يتمثل الهدف في الإشارة من خلالها إلى الصورة الاستراتيجية الكبيرة لما يجري في هذا العالم. خاصةً من حيث مستتبعاته الخطيرة المتوقعة على منطقتنا شعوباً وحكومات. قد يكون مُبرﱠراً للمواطن العربي العادي، خاصةً في الظروف الاستثنائية التي تمر بها حياتهُ ومجتمعاته، أن يفهم مايجري من حوله بمحدودية رؤيته لشكل «قمة جبل الجليد» الذي يراه. لكن من المخيف، أن ينطبق هذا على صانع القرار العربي. لماذا نقول هذا ونحن نُدرك أن الأخير يرى بالتأكيد أكثرَ بكثير من تلك القمة الصغيرة؟ ببساطة، لأن كثيراً من القرارات والممارسات والسياسات تبدو، في نهاية المطاف، وكأنها تنبع من التركيز على تلك القمة التي تُخفي تحتها كماً هائلاً من التعقيد، وتتطلب سياقاً مختلفاً تماماً عما هو سائد، إن لجهة الرصد والمتابعة والتحليل والفهم، أو لجهة ابتكار سياسات تستوعب المعطيات الناتجة عن الرصد والتحليل، وتُحقق الحد الأدنى لمصلحة، وبقاء، الدول وللشعوب. ثمة مثالٌ واحدٌ على التعقيد الذي ينبغي الانتباه إليه. تضرب روسيا عدة عصافير بحجرٍ واحد من ممارستها المذكورة أعلاه؟ فتستقطبُ أطرافاً أوربية في صراعها الاستراتيجي مع أوروبا، ثم تُشجع هذه الأطراف على تصعيد تَطرﱡفها تجاه المسلمين في أوروبا، بما يُعمق مأزق الأوربيين والمسلمين سوياً. هل يمكن عزل هذا السيناريو بأسره عن موقف روسيا من دول الخليج تحديداً، وتحالفها مع إيران، فيما يتعلق بالقضايا الاستراتيجية في المنطقة من النفط إلى قضايا سوريا والعراق ولبنان واليمن؟ أسئلةٌ متداخلة الخيوط نحسبُ أنها تستحق التفكير. ثمة صراعٌ سياسيٌ استراتيجي عنيف يجري تحت قمة جبل الجليد اليوم في العالم. وهو صراعٌ متعدد الأطراف والمواضيع والساحات. وفي حين تُوجَّهُ الأنظار، بحشدٍ سياسي وإعلاميٍ غير مسبوق، إلى «الإرهاب» اليوم، بوصفه «أمﱠ المشاكل»، وبلسان حالٍ يوحي أن حل أزمته ستُحيلُ العالم إلى واحةٍ أمنٍ وتعايشٍ وسلام، يفتحُ هذا الأمر المجال لاستمرار الصراع المذكور أعلاه بدرجةٍ من «الهدوء» و»التفرغ»، بعيداً عن الصخب والضجيج، وبما يكفل الانشغال بها في مساراتٍ مختلفة تضمن «السيطرة» على توازناتها في نهاية المطاف. فوق هذا، يمكن، مع وضع «الإرهاب» في خانةٍ وحدهُ على قمة اهتمام العالم كمشكلةٍ كونية، تصريفُ طاقة الحقوقيين والإعلاميين والمثقفين والنشطاء، في الغرب تحديداً، في ذلك الإطار، وشَغلهم عن مشكلات الانهيار الاقتصادي والبطالة وسوء توزيع الثروة، إلى غير ذلك من قضايا بات لزوماً أن تأخذ أولويةً ثانية وثالثة في سلم الاهتمامات. ولا بأس أن يمتد هذا لزمنٍ طويل ما دام الساسة يُبشِّرون الشعوب، بوتيرةٍ مُتكرِّرة ومُعبِّرة، أن الصراع مع «الإرهاب» سيكون طويلاً، وطويلاً جداً. لهذا، ستكون مظاهرة باريس السابقة واجتماع أمريكا القادم مناسبةً لإظهار عملية «تضامن قادة العالم»، وهي عمليةٌ لابد من تأكيد وترسيخ «الصورة الذهنية» لها بين الآونة والأخرى في ذاكرة الناس. لكن، ما لم يُطرح، ولن يُطرح، في أمثال هذه المناسبة يتمثل في الصراعات الأخرى، مثل حقيقة أن الحرب في أوكرانيا، وهي ساحةُ صراع استراتيجي بين روسيا والغرب بمكوّنيه على جانبي الأطلسي، تصاعدت بشكلٍ غير مسبوق وتحديداً منذ أيام، وخلال تضامن بوتين مع فرنسا. كما لن يُطرح مثلاً موضوع ومُستتبعات الرفض الكاسح، الذي أعلن نتيجة استطلاع منذ أيام في أوروبا، لمشروع عملاق بعنوان (الشراكة الأطلسية للتجارة والاستثمار)، وبين طرفي الأطلسي تحديداً، وهي ساحة أخرى لصراعٍ استراتيجي بينهما بخلفياتٍ اقتصادية وثقافية. الأمثلة، رغم خطورتها ودلالاتها، أكثر من أن يستوعبها مقالٌ صحفي. وهذا يعيدنا إلى النقطة الرئيسة في الموضوع. من الطبيعي، والمطلوب، ألا يتجاهل صانع القرار العربي نصيب ثقافته من الأزمة العالمية المتعلقة بالإرهاب، وأن يشارك في حلها عملياً، وأن يكون جزءاً من (البروفايل) العالمي المتعلق بها إعلامياً.. رغم هذا، ثمة توازنات استراتيجية دقيقة وحساسة يجدر الانتباه إليها حين يتعلق الأمر بالسياسات والقرارات.. وهو ما يقتضي كثيراً من التأني وعدم الاستعجال في (تنزيل) الأولويات التي يضعها النظام الدولي على الواقع والمجتمع العربيين بشكلٍ انفعالي، وبعيداً عن دراسة خصوصيات هذا المجتمع وذلك الواقع. فبقراءة دقيقة لهما بعد أحداث فرنسا، يبدو هذا المجتمع، لأول مرة بهذه الدرجة، غارقاً في عمليات فرزٍ وتصنيفٍ حدية تزيد درجات الاحتقان والانقسام، وبشكلٍ قد يؤدي إلى انفجاراتٍ قد تبدو معها الأحداث الراهنة، على هَولها، لَعِبَ أطفال.. وستطال الجميع دون تمييز. ما يزيد المشكلة اتساعاً أن يوجد في واقعنا العربي «مثقفون» و»إعلاميون»، بل و»مستشارون» يساهمون في دفع الجميع للهاوية. وبين الجهل الاستراتيجي والتمحور حول المصالح الفردية الخاصة، لن يأبه هؤلاء في النهاية بما يحصل، وستجدهم أول القافزين من أي سفينةٍ غارقة. بعد أحداث باريس، يُرجح المراقبون فوز ماري لوبان برئاسة فرنسا. والذي يتوقع أن تجعلها (السلطة) عاقلةً فيما يتعلق بموقفها من المسلمين شعوباً وحكومات، وأن تنسى (معروف) صديقها بوتين ودَينه، لا يعرف تلك المرأة، ولا يعرف مَنطق التطرف، ويبدو أنه لا يعرف السياسة. waelmerza@hotmail.com

مشاركة :