يتيح لنا الموسم السينمائي المقام هذه الأيام في بيروت لأفلام مختارة من تراث المخرج الفرنسي الراحل قبل ثلاثين سنة، فرنسوا تروفو، أن نعود إلى علامة مميزة، ليس فقط في سينما تروفو، بل كذلك في السينما الفرنسية ككل، لا سيما حين تقتبس من أدب الخيال العلمي الأميركي واحداً من النصوص التي تبدو الأكثر جذرية وقوة في الدفاع عن الفكر والثقافة في وجه همجية من المفترض أن الأزمان المقبلة ستحملها. والفيلم الذي يعنينا هنا هو «فهرنهايت 451» الذي شكل حين عُرض مفاجأة حقيقية، إذ بدا خارجاً عن مألوف سينما تروفو وسينما الموجة الفرنسية الجديدة التي كان تروفو ينتمي إليها بعدما ساهم في تأسيسها. * يبدو المشهد الأساسي في الفيلم، والرواية معاً، على الصورة الآتية: يصل البطل خلال تجواله إلى منطقة نائية بعض الشيء تعيش في مأمن نسبي من السلطات الصارمة في رقابتها. منذ وصوله يشاهد رجالاً ونساء يتمشون شمالاًَ ويميناً، وهم كالمتمتمين. وإذ يتفرّس بهم يفهم بسرعة سر هذه التمتمة: أن كل واحد منهم يحفظ، عن ظهر قلب كتاباً استعار لنفسه اسم كاتبه. عليه أن يحفظ كل صفحات الكتاب في ذاكرته، لأنه إن لم يفعل ستفقد البشرية أي أمل في الاحتفاظ بنص هذا الكتاب. من هنا، فإن هؤلاء الأشخاص يكوّنون في ما بينهم مكتبة حية. والتصنيف ليس ضرورياً هنا طالما أن كل فرد يحمل الكتاب واسم صاحبه، ومستعد في كل لحظة للاستجابة إلى من يطلب منه إطلاعه على الكتاب. > هذا المشهد الذي يبدو هنا جديراً بأدب جورج لويس بورخس، أو بسينما فيم فندرز، إنما هو واحد من المشاهد الأجمل والأقوى والأكثر دلالة في رواية «فهرنهايت 451». وللوهلة الأولى يبدو المشهد براقاً ربيعياً مفعماً بالأمل وحب الفن وحب الحياة. غير أن المسألة ليست على مثل هذا التألق. ذلك لأن هؤلاء الناس هم هنا وحولوا أنفسهم إلى مكتبة، لأن الكتاب، كل كتاب، بات ممنوعاً في تلك الدولة الفاشية الشمولية التي يعيشون فيها. كل كتاب مصيره أن يحرق وكل مكتبة في بيت تعرض صاحب البيت للسجن. ففي ملكوت السعادة الشمولية «المستقبلية» لا يقوم هنا الجمع وسعادته إلا على إلغاء وحرق كل ما يمت إلى الفرد بصلة، بما في ذلك الكتابة والقراءة. لكن الجانب الإيجابي في هذا كله هو أن عقل الإنسان القادر على صنع المعجزات، يقاوم الفاشية وعداءها للفكر والكتاب، بطرق مبتكرة، منها هذه الطريقة التي جعلها راي برادبري، أساساً لروايته. > توضع رواية «فهرنهايت 451» عادة في خانة الروايات المستقبلية، سواء كانت خيالاً علمياً أو لم تكن... وهي تشكل، مع روايتي «1984» لجورج أورويل، و «عالم جديد شجاع» لآلدوس هاكسلي، ثلاثية تعبر أول ما تعبر عن مستقبلات لا يكون للفكر أو لأحلام الفرد فيها مكان. وفي بعض الأحيان تضاف إلى هذه الروايات الثلاث رواية أنطوني بارغس «البرتقال الآلي» (التي حولها ستانلي كوبريك إلى فيلم حمل العنوان نفسه). مهما يكن من أمر، فإن ما لا يجب أن يغرب عن بالنا هنا، هو أن القاسم المشترك الرئيسي بين روايات هاكسلي وأورويل وبرادبري، هو أنها - في حقيقتها الجوهرية - لا علاقة لها بالمستقبل بأي حال من الأحوال. فهي - إذ كتبت خلال حقب صعود الفاشية ثم الحرب الأهلية في القرن العشرين - تبدو في حقيقتها متحدثة عن الحاضر أكثر بكثير مما تبدو متحدثة عن المستقبل. ولعل ما يعزز هذه القناعة هو أن الكتاب الثلاثة (أورويل، هاكسلي وبرادبري) إنما أرادوا هنا أن يعبروا عن مخاوف آنية، هم الذين كانوا، أصلاً، آتين من مواقع أيديولوجية خيبت آمالهم، إذ تحول ما كان إيجابياً فيها، الى كوابيس (أورويل كان يؤمن باليسار الاشتراكي والثورة الروسية، وهاكسلي كان بولشفي الاتجاه، أما برادبري، فواضح أن ما في خلفية روايته «فهرنهايت 451»، إنما هو الممارسات النازية ضد كل فكر وثقافة). من هنا، واضح أن من الصعب الحديث عن أعمال تنتمي إلى الخيال العلمي المستقبلي، بل عن أعمال تنتمي إلى ما تمكن تسميته «الخيال السياسي». > إذاً، شكلياً على الأقل، تدور رواية برادبري وبالتالي فيلم تروفو حول مستقبل، ليس على أي حال بعيداً جداً، تحظر السلطات فيه كل كتاب ومهما كان شأنه، لأن أفراد المجتمع الذي تحكمه هذه السلطات باتوا من الكآبة والاكفهرار، بحيث لم يعد الواحد منهم ودائماً وفق تشخيص السلطات نفسها في حاجة إلى الآخرين، أو إلى أعمال فكرية أو أدبية تذكره بوجود هؤلاء الآخرين. كذلك، وبالتالي فإن كل فكر نقدي ممنوع سواء كان مكتوباً أو شفاهياً. أما الشخصية المحورية هنا فهي شخصية غاي مونتاغ الذي تستخدمه السلطات، تحديداً، بصفته «رجل نار» - وليس إطفائياً، طبعاً. كما يعني الاسم بالإنكليزية «فايرمان» - أي أن وظيفته المحددة هي إحراق الكتب، ومن هنا نراه خلال الأقسام الأولى من الرواية ضمن دوريات تجول بين الأحياء والبيوت لتضرم النار في أي كتاب أو مكتبة يتم العثور عليها. أما الرقم 451 الذي يحمله العنوان فهو درجة الحرارة على مقياس فهرنهايت التي يحتاج إليها احتراق كتاب. إن مونتاغ يمتهن هذه الوظيفة، ليس طواعية، بل بالوراثة. فأبوه من قبله كان «رجل نار» أيضاً، وكذلك جده. من هنا، فإنه يمارس المهنة من دون أية عواطف شخصية، ويحرق من دون أحقاد. هي مهنة مثل أي مهنة أخرى. لكن مونتاغ يلتقي ذات مساء بالحسناء كلاريسا ماكليلان، ليكتشف فيها، بعد الإعجاب الشكلي، حرية في الفكر ووعياً وتمسكاً بالمبادئ الليبرالية، ما يدفعه إلى البدء في طرح أسئلة حول نفسه وحول حياته ومفهومه الخاص للسعادة. ثم يحدث أنه فيما يكون منهمكاً في إحراق مكتبة وبيت امرأة عجوز، يلتقط كتاباً يفتحه عشوائياً ويقرأ عبارة تستوقفه تقول: «لقد سقط الزمن في مهب النوم تحت وطأة شمس بعد الظهر المشرقة». هو لا يدري تماماً ما الذي استوقفه حقاً في هذه العبارة، لكنه يضع الكتاب في جيبه. أما السيدة العجوز فإنها ترفض مبارحة مكتبتها وبيتها المحترقين مفضّلة أن تحترق معهما، مشعلة عود الكبريت بنفسها. من البدهي أن هذا كله بات قادراً على إحداث شرخ في حياته وأفكاره. وإذ تشعر السلطات، ببعض هذا، يزوره رئيسه في بيته ويحدثه حول بعض الأمور قائلاً له، مواربة، أنه يحدث حقاً لكل رجل نار أن يسرق كتاباً بدافع الفضول، لكنهم عادة ما يعيدون الكتب المسروقة إلى المركز خلال 24 ساعة. > بعد هذه التطورات الأولى تحدث تطورات جديدة، تتحول فيها الصراعات من التلميح إلى التصريح، خصوصاً أن مونتاغ، بات مكشوفاً، وبات عليه أن يقاوم لفترة، ثم أن يزايد لفترة أخرى، لا سيما حين يلتقي فابر أستاذ الإنكليزية الذي يمثل الشخصية المترددة: إنه يعرف ما الذي يتعين عليه فعله، لكنه يبدو دائماً عاجزاً عن الفعل. ومن الشخصيات التي يلتقيها مونتاغ، خلال حقبة تمزقه، غرانجر، قائد جماعة المثقفين المنفيين الذي يتولى الإشراف على المكتبة البشرية المشار إليها. ما يجعله النقيض التام لشخصية الكابتن بيتي، رئيس مونتاغ. فهذا يحرق وذاك ينقذ. أما قبول غرانجر في النهاية بمونتاغ ووثوقه به، فما هو إلا الدليل الأخير على أن مونتاغ قد تبدل في شكل جذري وصار في مقدم مقاومي الطغيان الشمولي، بعد أن أيقظه الحب من ناحية والكتب من ناحية أخرى على واقع لم يكن له عهد به. > عندما حقق فرنسوا تروفو فيلمه عن «فهرنهايت 451» لم يكن راي برادبري معروفاً خارج الولايات المتحدة، فأضفى عليه الفيلم شهرة كبيرة بدءاً من تاريخ تحقيقه (1966). والجدير ذكره هنا هو أن السيناريو ألغى عدداً من المشاهد والشخصيات، لكن برادبري لم يغضب لذلك أبداً قائلاً أن «تروفو، على أي حال، عرف كيف يلتقط روح الرواية حتى وإن لم يمكنه الزمن السينمائي المحدود، من دمج كل أحداثها وشخصياتها في الفيلم».
مشاركة :