يعتبر راي برادبوري، من أعظم كتّاب الخيال العلمي وقد اختارت دار الساقي في بيروت روايته الشهيرة «فهرنهايت 451» أي الحرارة التي يحترق عندها ورق الكتاب، إنها قصة مرعبة في معانيها.. وكم هو آسر ذلك الوصف الذي يقدمه الكاتب الفائز بجائزة بوليتزر لهذا العالم المجنون بما فيه من صور مثيرة للقلق لشدة تشابهها من عالمنا نحن. هي قصة تقض المضاجع في استقصائها للبعد النهائي لمقولة «الجهل نعمة» فما من كاتب آخر يستخدم اللغة بأعظم ماضيها من فطرية أساسية واتقاد، وفيما يقول عنها ناقد: «أبرع سرد جهنمي يمكن أن يطلع به قلم كاتب مفتون بالخيال العلمي». أما عن الكاتب الذي توفي عام 2012م فهو من أعظم كتاب الفانتازيا في العالم ولد في ولاية الينوي الأمريكية عام 1920م ونشر أكثر من 500 قصة قصيرة ورواية ومسرحية حاز ميدالية «العطاء المتميز» للأدب الأمريكي العام 2000 التي تمنحها المؤسسة الوطنية الأمريكية للكتاب.. وبالإضافة إلى العديد من الجوائز. ملخص الرواية أن «غاي مونتاغ إطفائي وظيفته حرق الكتب الممنوعة أصلًا. كون الحكام يعتبرونها مصدر كل شر وفاجعة. مع هذا فإن مونتاغ تعيس، يتأثر بجارته كلاريس فيبدأ بسرقة الكتب المفترض به حرقها عندما تكتشف جريمته يؤمر بحرق منزله، بعد ذلك يلجأ مونتاغ إلى الريف، حيث يلتقي مجموعة من الهاربين، كل واحد منهم قد حفظ عن ظهر قلب عدداً من الكتب إلى حين أصبح المجتمع جاهزاً لإعادة اكتشافها. لقد أثارت هذه الرواية عند صدورها جدلاً واسعاً من الإطراء إلى الذم. أما اليوم فثمة إجماع عالمي على أنها من الإبداعات الأدبية الرائعة في القرن العشرين المنصرم. ونرى حيث جال مونتاغ ببصره من وجه إلى آخر فيما كانوا يسيرون قال أحدهم: «لا تحكم على الكتاب من غلافه، وضحك الجميع بهدوء وهم يمشون مع مجرى النهر. سمع زعيق واختفت الطائرات النفاثة الآنية من المدينة عالياً قبل أن ينظر الرجال إلى أعلى. حدق مونتاغ خلفه في المدينة البعيدة عند النهر التي لم يبد منها الآن إلا وهج باهت. ويتحدث مونتاغ عن زوجته: «الأمر غريب.. أنا لا أفتقدها، لأمر غريب، ليس لدي الكثير من الإحساس بأي شيء. لقد أدركت قبل لحظة أنني لن أشعر بالحزن حتى لو ماتت كما أظن. هذا ليس صحيحاً. لا بد من وجود خطب فيّ. وفي مكان آخر: انغلقت يد مونتاغ وكأنها فم وعصرت الكتاب بحماس وامتلأ صدره بجنون اللامبالاة. كان الرجال فوقه يرمون في الهواء المغبر رزماً من المجلات. كانت هذه تتساقط على الأرض كطيور مذبوحة، فيما وقفت المرأة في الطابق تحتهم كفتاة صغيرة من الجثث. لم يفعل مونتاغ أي شيء يده فعلت كل شيء. يده التي تمتلك دماغاً خاصاً بها وضميراً وفصولاً في كل إصبع مرتجفة، تحولت هذه اليد السارقة، اقتحمت الكتاب الآن تحت ذراعه، ضغط عليه بقوة تحت إبطه المتعرق وجرى خارجاً فارغ اليدين ومتباهياً كساحر إنظروا هنا! أنا بريء! انظروا.. حملق مخضوضاً في اليد البيضاء مدها بعيداً عنه كأنه مصاب ببعد البصر، قربها إلى وجهه وكأنه أعمى كانت الكتب مكدسة كأكوام كبيرة من الأسماك المتروكة لتجف كان الرجال يرقصون ويتعثرون ويسقطون فوقها. التحقت العناوين في عيونهم سقطت اختفت، ضخوا الكيروسين هذا السائل البارد من الأوعية المربوطة على ظهورهم والمرقمة 451 غمروا كل كتاب واغرقوا الغرف بالكيروسين. هرعوا نازلين إلى أسفل ومونتاغ يتبعهم مترنحاً في أبخرة الكيروسين. كانت هناك امرأة جاثية على ركبتيها بين الكتب تتلمس الأغلقة الجلدية والكرتونية المبللة وتقرأ العناوين المذهبة بأناملها وعيناها ترمقان مونتاغ بنظرات اتهام قالت: لن تتمكنوا أبداً من أخذ كتبي. قال بيتي: أنت تعرفين القانون.. أين هو حسن أدائك؟ لا يتوافق أي من هذه الكتب مع الكتب الأخرى، لقد عشت منغلقة على نفسك لسنوات في هذا المكان الشبيه ببرج بابل حقيقي لعين. تخلصي من هذا الوهم! إن أشخاص هذه الكتب لم يعيشوا أبداً.. تعالي الآن. هزت رأسها وقالت بيتي: «المنزل كله سيحترق.. سار الرجال متثاقلين إلى الباب، نظروا خلفهم إلى مونتاغ الواقف قرب المرأة. سأل محتجاً: أنتم لن تتركوها هنا. فأجابوا: إنها ترفض الرحيل قال: أجبروها إذاً على الرحيل. رفع بيتي يده التي كانت الولاعة متوارية فيها وقال: «حان الوقت بعودتنا إلى المركز، كما أن هؤلاء المتعصبين يحاولون الانتحار دائماً، هذا نمط مألوف. صاح آخر، الكتب يا مونتاغ: كانت الكتب تقفز وترقص كطيور تشوي أجنحتها ملتهبة بريشها الأحمر والأصفر. بعد ذلك جاء إلى الردهة، حيث كانت المسوخ الكبيرة الغبية قائمة بأفكارها البيضاء وأحلامها الثلجية. أطلق صاعقة نارية على كل من الجدران العالية العارية الثلاثة وفح الهواء في وجهه رداً عليه. وزاد الهواء الصغير الفارغ فراغاً، جعله صرخة بلا معنى. حاول التفكير في الهواء الذي كان اللاشيء يعمل عليه، لكنه لم يستطع حبس أنفاسه كي لا يتمكن الهواء من الدخول إلى رئتيه. قطع فراغه الرهيب وتراجع وقدم للغرفة كلها هدية كناية عن وردة عملاقة من النار الحارقة بصفار ساطع. مزق الغلاف البلاستيكي المضاد للحريق الذي كان ملفوفاً على كل شيء. وبدأ المنزل يترنح وهو يلتهب. قال بيتي الواقف خلفه: عندما تنتهي تماماً من عملك ستوضع رهن الاعتقال. لم يستطع مونتاغ أن يتحرك. لقد جاء الزلزال نارياً كبيراً وسوى المنزل بالأرض، وكان ميلدر تحته في مكان ما. كما كانت حياته كلها مطمورة تحته وعجز هو عن الحراك. كان الزلزال لا يزال يرتج وسقط وينفعل في داخله، ووقف هو هناك وركبتاه نصف مثنيتين تحت الحمل الثقيل للتعب والذهول والغضب تاركاً بيتي يسدد إليه الضربات بدون أن يرفع يداً.
مشاركة :