المعروف أن الإطفائي، أو رجل الإطفاء انه من العاملين على إخماد الحرائق على كافة المستويات من الحريق الصغير إلى الحريق الكبير، حسب الأدوات التي أمّنت لتكون كفيلة بالسيطرة لإخماد الحريق، ولكن كيف تكون الحالة إذا كانت مهمة رجل المطافي هي إشعال النار خاصة في ما يتعلق بالمعرفة والفكر، وأعني حرق الكتب، فهذه المهمة ليست لرجل إطفاء وإنما هي صفة لمجرم، لقد تعمد بعض الكتّاب أن يذهب عكس ماهو معروف ومتبع باتباع طريقة ذكية تكون مقبولة فنياً عند المهتمين والمبدعين، وأصحاب الأمزجة التي تأبى التكرار والركود والدوران حول دائرة ما، أو منظر معين، فهي نزّاعة وتوّاقة للمفاجآت، والمتحركات غير الرتيبة، وهذا يكون في الأعمال التي تعتمد أساساً على الخيال، ولكون الخيال يتفرع حسب منابعه، فإن العمل يكون من جنس المنبع، وجنس المنبع يخضع لاهتمامات ودراسات صاحب العمل الذي غالباً مايجيء في عالم الإبداع الفني وما يهبّ في النفوس لكي تمعن في ملاحقته لتصل معه إلى المقصود منه. غاي مونتاغ، رجل إطفاء ( إطفائي) وظيفته حرق الكتب الممنوعة أصلاً لدرء مشاكلها، ولكنه بحكم تأثير جارته "كلاريس" ذات السبعة عشر ربيعاً يتأثر بأفكارها المعارضة لحرق الكتب، توجه إلى سرقة الكتب المفترض حرقها، ولكن يكتشف من قبل التحريات التي تتابع هذه العملية، فتصدر إليه التعليمات بحرق منزله، ولكنه قد وزع بعض الكتب في أماكن لا يعرفها إلا هو، وبعد حرق منزله يهرب إلى الريف ليجد بعض الهاربين الذين قد حفظوا محتويات كتب كثيرة، وهم يعملون على أن تعاد إلى أصولها حيث تؤخذ من المحفوظات الذهنية إلى الكتب المطبوعة، ويعملون العدة لسلوك هذا الطريق الذي سيحفظ للكتب مكانتها، وهذه الرواية التي حملت عنوان (فهرن هايت 451" الحرارة التي يحترق عندها ورق الكتاب) كتبها: راي براد بوري، وقد حازت على جائزة بوليتزرعام 207، وكانت إبان صدورها عرضة للجدل بين إطراء وذم –كما ذكر الناشر – أما اليوم فهناك إجماع عالمي على أنها من الإبداعات الأدبية الرائعة في القرن العشرين، وقد صدرت عن دار الساقي بترجمة: سعيد العظم الذي نقل أجواءها بما يتناسب مع مكوّناتها الفنية والدلالية، ولكونها تعتمد على الانعطافات الباطنية، والتسامي الميتافيزقي، فأحداثها توجب التركيز حيث إن الكاتب اعتمد أسلوب التداعي اللفظي، وأمعن في الوصف الغرائبي، وميزها بقلة الأشخاص لكيلا يشتت ذهن المتلقي الذي يريد أن يصل إلى نهايات تكون في مخيلته أو لا تكون لأن المهم أن يصل إلى النهاية، ثم يكون الحكم، وقد اقتبس المترجم كمدخل لعالم الرواية بعض الأقوال لنقاد وكتّاب وصحف تشيد بالعمل: " قصة مرعبة في معانيها، وكم هو آسر ذلك الوصف الذي يقدمه براد بوري لهذا العالم المجنون بما فيه من صور مثيرة للقلق لشدة تشابهها مع عالمنا. قصة تقض المضاجع في استقصائها للبعد النهائي لمقولة (الجهل نعمة). ما من كاتب آخر يستخدم اللغة بأعظم ما فيها من فطرية أساسية واتقاد. أبرع سرد يمكن أن يطلع به قلم كاتب مفتون بالخيال العلمي. وقد وضع البعض من الناقدين هذه الرواية في مصاف رويات الخيال العلمي الشهيرة مثل:(ثلاثية النمل) لبرنارد فير بير، و (الأرض المسطحة) لإدرين أبوت أبوت، و (سيد العالم) لجون فير، و (الرجل الخفي) لهربرت جورج ويلز، و(عام 1984) لجورج أورويل. رويات الخيال العلمي تعمل على تحريك الذهن وتبعث على الدهشة والاستغراب، وقد يتحقق ما يذهب إليه الكاتب من أفكار أو مايقاربها، وربما يقرّب إليها عندما تكون هناك ولو شبه مطابقة ولو في جزئية بسيطة، ولكنها تعتبر من أنجح وأجمل الرويات لأن من يتوجه إلى كتابة تتسم بالمعارف والقيم العلمية والأخلاقية، والجغرافية، والطبيعية، والأنثروبولوجية، وسواها ماهم إلا شبه علماء وخبراء في مجالات علمهم وتخصصهم، فمن هنا تكون كتاباتهم قادرة على المسك بتلابيت القارئ الجاد. وقد كتب بعض من الكاتبين العرب روايات تندرج تحت مظلة الخيال العلمي أذكر منها (هذا الرجل من حقل السبانخ) لصبري موسى، و(رجل تحت الصفر) لمصطفى محمود، و(البعد الخامس) لطالب عمر. يصف الإطفائي حاله بعد أن رأى مجموعة من الكتب معدة للحرق:"عندما حضَّروا الموضع المخصص لحرق الكتب في آخر الأمر تنحنحت"..، ثم ذهب لصاحبه المحب للكتب فابر وطلب منه أن يعلمه فهم القراءة فكان الحوار بينهما: "لدينا كل مايلزمنا لنكون سعداء لكننا لسنا سعداء، ثمة شيء ناقص. لقد نظرت حولي. الشيء الوحيد الذي علمت قطعاً أنه اختفى كان الكتب التي أحرقتها خلال عشر سنوات أو اثنتي عشرة سنة لهذا السبب فكرت أن الكتب قد تساعد، فيرد عليه فابر: أنت رومانسي لا أمل في شفائه، سيكون الأمر مضحكاً لو لم يكن جدياً. ليست الكتب ما نحتاج إليه بل بعض الأشياء التي كانت موجودة في الكتب في وقت ما، ومن المحتمل أن تكون نفس الأشياء موجودة اليوم.."
مشاركة :