بعد أن اصطدم المشروع العربي القومي وكذلك اليساري في الحائط ، وانغلقت أمامهما السبُل، في عالمنا العربي، توقّع الكثيرون أن “الإسلام” سيقوم بتعبئة الفراغ، وأن الذي سيقود حافلةَ الأُمّة هم الإسلاميون. والإسلام المقصود هنا هو ليس النّص ، إنّما الأحزاب والجماعات التي تدّعي أنها تُمثّل الدّين الإسلامي ،وليس بالضرورة أنّها تقوم بذلك . والحُكْم والنقد والمُساءلة يجب أن تتوَجّه إلى الأحزاب وليس للدّين البريء . غير أنّ ثورات الربيع العربي، التي طالبت بالدولة المدنيّة، قد جعلت من الإسلاميين رُكّاباً في الحافلة، ولم تكرّسهم سائقين لها أو متحكّمين بها. ومع تفتّح الحياة الجديدة، في بعض دول الربيع العربي، نرى أنّ الحركات الإسلامية حاضرة بقوة، ولها مداخلاتها على غير صعيد، في ظلّ حِراك ومخاض ونقاش واسع وعميق ، وشَرِس أحياناً، يسعى للحيلولة دون سيطرة الإسلاميين على دفّة الحُكْم. وأعتقد أنّ الحركات الإسلامية ستواصل إخفاقها في تراكم خطواتها وفي الصعود إلى كرسي الحُكم، ما دامت منكفئة لا تعترف بمفردات اللحظة ومتطلباتها، ولا تعترف بالآخر الوطني، وتسارع إلى تكفير أو إعدام مَنْ لا يؤمن بأفكارها، وتلجأ إلى وسائل غير حضارية وغير سلمية وغير حزبيّة في التعاطي مع المُختلِف، أو لا تعترف له بخصوصيته، وتؤمن أنّها وحدها تمتلك الحقيقة ومفاتيح الحياة، وتنسج تحالفات تشوبها المصلحة أو تعاكس العقيدة. وليعلم الجميع أنهم أمام اختبار في مرحلة جديدة لها ما بعدها . لهذا، أرى ضرورة إيجاد فريق من العلماء والفقهاء واللغويين، ومن شتّى التخصصات، للعمل على تحديث الخِطاب الدّيني الإسلامي، وتجديد الاجتهاد وبعثه على ضوء متطلبات العصر ، دون أنْ نجرح النصّ أو نبالغ في التأويل ،آخذين بعين الاعتبار غير ملاحظة تقدّم بها المفكرون ، أمثال محمد شحرور ، كقوله (لا نريد مؤسسة تنغلق على تفسير شبه أحادي ) لأن ذلك سيؤدي إلى إكراهات تفسيرية على النص ، مع استقلالية النص وقدرته وسيادته ، في مواجهة القراءات التراثية والمُؤدلجة والمتحكّمة . ويعتقد بأن ثمة مفاهيم حضارية غربية قابلة للهضم والاستيعاب ضمن منظومة العقل الإسلامي . وعلينا أن نمعن النظر فيما قاله ابن رشد ( إعمال العقل في النص المكتوب ) و (لا يُقطَع بكفر مَن خرج على الإجماع) . وعلينا أيضاً أن نتوقف أمام مقولة المفكر مراد وهبة ( لابدّ أن يتوارى الإجماع حتى يتوارى التكفير ). وأنا هنا لا أتبنّى أيّاً مما ذُكر ، لكنّي أدعو إلى التبؤّر والإمعان والتفكّر والانفعال بهذه المقولات الكبيرة والعميقة ، قبل تقرير أو تبنّي أي اجتهاد أو اتجاه. كما ندعو التيارات القومية واليسارية إلى مراجعة عميقة وواعية لخطابها ، والتمعّن في أزماتها ، ولتبيان أفضل الطرائق لتخطّي انكساراتها ، وللتعمّق في مسلّماتها الخائبة. إن المُناخ الوحيد الصالح للإسلام، ليجد آفاقاً يمتدّ فيها هو الدولة المدنيّة، التي تقوم على المواطَنة بكل مكوّناتها وشروطها، وعلى حقّ الاختلاف وممارسته. إنّ معالجة كل الحركات الناتئة فكرياً أو سياسياً أو اجتماعياً، لا يمكن أن تتم بطرائق “عنيفة”، بل بنظرية العوامل المتعددة، والتي أهمها التعليم والفنون وإشاعة الوعي والعدالة وقيم الديمقراطية وحقوق الانسان. على القوى والأحزاب جميعها، أنْ تعرف وتَعي وتمارس وتؤمن بأنّ لكل منها حقّاً، مثلما للآخرين، بعيداً عن الأحكام المُسبقة، أو المواقف الجاهزة، أو التماهي مع بعض المطالب الإقليمية المشبوهة، ولا يحقّ لطرف، مهما كان مشربه وتوجّهه الفكري أو العقدي، أنْ يُشيطن الآخر أو يحجر عليه أو يُقصيه أو يُعرقله أو يمنعه من حقّ يمارسه هو نفسه. ونؤكّد على أنّ منع تيار وصل الى الحكم عبر صناديق الاقتراع من ممارسة حقّه، يعتبر دعوة مفتوحة للعنف والقمع، ولا مبرّر لصاحبها مهما كانت ذرائعه. وعلى بعض المفكرين ألاّ يُنَصِّبوا أنفسهم أوصياء على الخلائق وأنْ يحترموا توجّهات الناس وخياراتهم . والإسلام باعتباره ديناً سماوياً مؤثّراً وعظيماً، يحتاج منّا إلى حوار موصول، لعلنا نجد على ما نصل إليه هدى، يساهم في تصحيح المفاهيم، أو وضع الكوابح أمام بعض المواقف أو المصطلحات المُنفلتة. *** وقد بات الكثير من المثقفين يخجلون من التزيّي بالتديُّن، وراحت عقدة النقص هذه تتدحرج بين صفوف أهل الثقافة والفكروالإبداع ، ويبدو أنّ هذه العقدة جاءت من الهزيمة أمام الاستعمار وانبهار المثقف بالمستعمِر، ما أدى إلى هزيمة فكرية، بالتزامن مع سيطرة الصورة النمطية الاستشراقية عن المثقف، أدت إلى هذا الشعور بالتضاؤل والصَغَار. وقد بدأت هذه العقدة من الأمور الشكليّة وانتهت بتقديس واعتماد النموذج الغربي . وقد يكون الغرب مُحقّاً في نقد “المتديِّن” لأسبابه، وهذا جزء من الأزمة في الثقافة الغربية، التي تعاني من عوامل داخلية تاريخية لها علاقة بانحراف الكنيسة في القرون الوسطى، وتعارضها مع المنظومة الحياتية، أدّت إلى هذه الصورة القاتمة للمتديّن. أمّا فيما يتعلّق بالإسلام فإنّ الحركات والجهات المعادية للعرب والمسلمين تقوم بتزويد المجتمعات الغربية بحمولةٍ ظالمة وسوداء مفبركة عن العرب والمسلمين، كما أنّ التقارب بين الكاثوليكية ومركز البروتستانتية، المُفضي إلى وحدة العهدين القديم والجديد، ساعد المناخ اللاهوتي الغربي في تدعيم اليهود والصهيونية، الذين يصدّرون صورة قاتمة عنا، كما يقول المفكرون، إضافة إلى أنّ قروناً من الصراع الصليبي الإسلامي ما زال مترسّباً في الغرب ويخلق نظرة سلبية ضدّنا ، تساعد في تعميق الصورة النمطية المقوْلَبة ضدنا في الغرب. أما الموقف أو السياسات في المجتمع المدني الغربي، فقد بدأت تتغيَّر ببطء تدريجياً نحونا، لكنّ هذا التغيُّر، وفي ظل الترهيب باسم معاداة الساميّة، ما زال يفتُّ في صورتنا ويظلمنا . وهنا، علينا الإفادة، عرباً ومسلمين، من الفضاء الحرّ المَعيش في الغرب، وخصوصاً أن لديه مُتّسعاً لما يُسمّى بالأسئلة اللامتناهية، على رأي بعض المفكرين، (الّلامتناهي في الأسئلة والإجابات والنقد) قولاً وممارسةً. وأن أحد سلبيات إعلامنا أنّه يتوجّه لنا أكثر مما يخاطب الرأي العام الغربي، بهدف ترميم صورتنا وتقديم صورة تمحو الرُّهاب عن الإسلام (ألإسلاموفوبيا) في ظلّ سيطرة انتشار حرّاس الكذب، الذين يمرّرون مقولاتهم، في ظل الفوضى الخلاّقه والعولمة والاحتلالات، لتعميق صورتنا السوداء المغلوطة في الغرب، على الرُّغم من تشقق الجدار، الذي فصل ما بين ما كان يحدث عندنا من مذابح وفظاعات من قبل الاحتلال وقوى الاستكبار، وبين متلقيات الوعي والإعلام الغربي، ما أحدث تحوّلاً في الرأي العام الغربي، لكنه ما زال بطيئاً وضعيفاً جداً. لهذا بقيتْ الثقافة الغربية الجمعية ثقافة عنصرية تّجاهنا، بسبب موضوعة الاستعمار. وبسبب الاستعمار كان لا بدّ للخطاب المستعمِر إلاّ أنْ يصِفنا بالدونيّة وبأنّ ثقافتنا خرافات وخيالات، وهذا جزء من مرافعته لتوفير الأعذار والمبرّرات لما يقترفه ضدنا. إنّ هذا مقياساً عنصرياً ما زال متحكّماً ومستمراً ورافضاً لنا وإنّ الثقافة الغربية ثقافة هيمنة وذرائع، لكنّ ديننا أنتج ثقافة مساواة وقبول للآخر وثقافة حوار وعدالة. *** ويبدو أنّ البعض يريد أنْ يُحْكَم المجتمع بثقافة غير ثقافته (حكم المجتمع خارج ثقافته) هل هذا معقول ؟ المعقول هو المطالبة بإنهاض وتحديث هذه الثقافة وليس اجتثاثها، لأن ذلك عين المستحيل. وربما يطيب للكثيرين القول بأنه لا توجد رسالة إنسانية في ثقافة الغرب، وهذا صحيح إلى حدّ كبير، لأن الثقافة الغربية مكّنت الأقوياء فقط من فرض وعيهم وثقافتهم ومصالحهم (خمس دول يتحكّمون في مجلس الأمن)، عدا عن تصاعُد النازيّة والفاشيّة الجديدة وجماعة كارل الثاني عشر، ما يدلل على أن الثقافة الغربية، منذ اليونانية، هي ثقافة السيّد الأبيض، وبظنّي أن الغرب لم يغادر هذه الثقافة حتى الآن، لأنها تعمّقت خلال ممارساته الفظيعه فيما اقترفه في العالم الجديد من فظاعات وإبادة (أنظر تزفيتان تودوروف ومنير العُكش في كتابيهما فتح أمريكا وحق التضحية بالآخر)، عداك عن محاكم التفتيش وضحايا الحربين العالميتين .. الخ . بينما نجد العقيدة الإسلامية التي لم ينشأ في حضنها أي ظاهرة فاشيه، قد أسقطت العِرق واللون والجنس. والأَخطر من كل ذلك أن الغرب استبدل، في العصر الحديث، سيادة العدالة بسيادة القانون، لأن العدالة قانون عام، أما القانون فيتمّ وضعه تبعاً للمصالح ورؤية النظام. وأرى أن الإسلام قد أعلى العدالة باعتبارها أساس المُلك أي أساس الحكم. *** والتديُّن طاقة روحية هائلة قادرة، في حالة استثارتها، على اجتراح معجزات عبقرية، وهي تلك الطاقة التي تحرّك الملايين في مواجهة جلاديها تاريخياً. هذه الطاقة هي أهم تجلّيات الوعي، الذي انسرب إلى الوجدان وتسربل فيه وخلق النسغ القادر على إحداث القشعريرة والانفعال. والدين الإسلامي ثقافة للدنيا (الدين من الدنيا) وليس ثقافة للآخرة ( الإسلام يبعثك إلى الآخرة بشكل يجعلك مقبولاً )، أي أنّ الدّين زمنٌ أرضي . *** إنّ أيّ فكر أو دّين أو عقيدة بالإمكان تأويله بشكل مغلوط، والذهاب به إلى القراءة الخطأ، ما يؤدّي إلى التعصّب والتطرّف والظلامية، قولاً أو فعلاً، وهذا لا يقتصر على دّين دون آخر . وإذا كان الدّين عاملاً إرتكاسياً يؤدّي إلى التخلّف وتمزيق الذات، فلماذا يُصرّ الغرب والحكام المصنوعون المكرّسون لخدمته على “تنقية” المناهج والحياة من الدّين وتجفيف مصادره، على اعتدالها ؟ *** إنّنا نرفض ثقافةَ تصدير الخوف والإرهاب والتوصيف السلبي، كما أننا مع ثقافة النقد في مواجهة ثقافة الرفض . *** وتجدر الإشارة إلى أنه بالإمكان استخدام أيّ دين بكيفيّة مرعبة وخطيرة، مثلما يتمّ استخدام الثقافة أو الإعلام. وثمة غلبةٌ للتقاليد والعادات والقيم السائدة في الحياة، لكنه لا يجوز تحميل أوزارها للدّين، كما لا يجوز الدخول إلى نظرية أو فكر من خلال جزئية أو عبر تفصيل، بل عليك أخذ النظرية كاملة ثم ادخل إلى فروعها وتفاصيلها. *** وأخيراً، ومع إقرارنا بأن ثمة رُهاباً “فوبيا” قديمة في الوعي الغربي من الإسلام بفعل الفهم المغلوط والاحتكاك بالعثمانيين والأندلس والحروب الصليبية، إلا أن الغرب، مُطالب بإمعان نظره في النص الإسلامي القابل للتأويل السليم والاجتهاد والخصوصية، باعتبار الإسلام فكراً إنسانياً تخطّى الجغرافيا والزمن، لما لديه من قدرة على التعاطي مع المتغيّر .
مشاركة :