المتوكل طه يكتب: الآخر والأنا والهوية

  • 2/23/2019
  • 00:00
  • 5
  • 0
  • 0
news-picture

إنّ الآخر في الحالة الفلسطينية بما لها من خصوصية يبدو نبتاً غريباً، طارئاً على تراب هذه البلاد .. وعليه فإن التعاطي معه يتطلّب مراعاة هذه الخصوصية.. “الآخر ” بكامل محمولاته لنفي “الأنا” ومحوها حاول وعبر غير طريقة لكتابة روايته لإلغاء تاريخ وهوية وذاكرة ” الأنا” .. وهنا فالعلاقة بين “الأنا” و “الآخر” علاقة صراع، تناحر .. وكلَّما أمعنت “الأنا” الفلسطينية الفردية والجمعية في صياغة روحها، كلما أمعن “الآخر” وأوغل في التدمير والقتل والنفي .. معتقداً أن “هم” لا وجود لهم إلا بتدمير الـ”نحن” .. من هنا بات الصدام هو محرك العلاقة لدفاع الضحية عن بقائها مقابل عصف “الآخر – الصهيوني” والذي بالضرورة يختلف عن “الآخر”، اليهودي .. بعد اتفاقيات أوسلو بدأ مصطلح “الآخر” يتدحرج في الساحة الثقافية ككرة الثلج، عبر طرائق تمريرية ثقافية وإعلامية لترميم علاقة النقيض وتلطيف صورته وتمثلاته حتى يمكن التعاطي معها لصياغة سلامٍ ما على هذه الأرض سلام بمقاييس وآليات مهندسة.. وجرت محاولات حثيثة لتثبيت هذا المفهوم، لأن العدو، الاحتلال، النقيض، مفاهيم مضادة لهذا “الآخر” ونسف لحيادية المفهوم، وعليه فإن التعاطي مع “الآخر – الصهيوني” بموضوعية وحيادية، يسمح له بالتسلل إلى الروح واستلابها .. وعليه ينتفي المبدأ الحواري (حسب باختين)، ليحلّ محله المبدأ التناحري . وإن مقولة : الخوف من محاورة “الآخر” تبدو ساذجة فهو يقتلع “الأنا “، وهيهات لـ”أنا” مقتلعة أولوية الحوار. قال محمود درويش  : “من صاغ سيرته بعيداً من هبوب نقيضها وعن البطولة ، لا أحد”، بمعنى لا يمكن كتابة التاريخ الفلسطيني دون كتابة تاريخ الصراع، “الأنا” وبطولتها في صراعها مع النقيض .. لا يمكن أن أرى نفسي إلاّ في حالة الصراع مع “هم” .. وعليه فإن الرؤية النظرية الفلسطينية: الأنا – آخر في حالة كهذه تبدو إشكالية وخطرة.. فكلانا على ذات التراب ، ننأى وندنو، والجدل القائم هو جدل الضحية والجلاد، ورواية النقيض نصرّ على أن تسحب نفسها على ذاتها وعلينا نحن كـ”آخرين” لـِ”هم”، وعليه فإن كتابة التاريخ يتم كما تراه الضحية على قاعدة وجهاً لوجه، العين بالعين والسنّ بالسنّ والدم بالدم. فالصهيوني الاستيطاني الذي جاء من مكانه “هناك” لصياغة هوية مفبركة “هنا” كيف يمكن له أن يكون جزءاً من “أناي” وهو قائم لنسفها وتعطيلها.. ويدّعي منظّرو الواقعية السياسية، أن ما هو على الأرض ينبغي التعامل معه، حتى باتت الحقيقة ، حقيقة وجودنا وبقائنا ومشروعية دفاعنا عن هذا الوجود ضرباً من الجنون والطوباوية ، إذ نظروا للحالة الفلسطينية بعين وفقأوا العين الأخرى. في حين تظهر الواقعية السياسية ذاتها إصرار النقيض على إشاعة الموت والاستلاب والإبادة لتكريس مفاهيمه وهندسة كيانه الإحتلالي، على جماجم ودماء الصغار والأشجار في بلادنا فلسطين.. وعليه فإن “الأنا”  و”الأنت” ، الـ”نحن” و”الْهُم” بينهما برزخ يتطاول، وجدار فصل ذهني وواقعي يحول دون علاقة الإندماج والإنشباك ، لتكون العلاقة اشتباكية تناحرية. ألا يدلل جدار الفصل العنصري، تأكيد الـ”هم” على توسيع لللهوّة وتعميقها؟ وإن حفلات تهنئة النفس بضرورة التعايش والحوار، مفاهيم أثبت الواقع المعيشي بطلانها وفراغها وعدميتها. مرّة أخرى فإنه ليس ثمة مشكلة مع اليهودي كديانة ، فهم بشر مثل باقي خلق الله، ولكن المشكلة هي في تمثَّلات اليهودي وصوره: القاتل، الجلاد، الطاغية، النافي ، المضطِهد، بمسميات، جديدة متكئة على شرعية دينية، وإِن “الأنا” الفلسطينية في مقاومتها العصف النقيض ودفاعها عن الإنساني والطيب والقيم النبيلة، وحقّها في الوجود عبر إرادة حقّها في البقاء، تسعى لمنازلة العدو لتهزم قوة المنطق ومشروعية الفعل ومنطق القوة الإسبارطية التي يمارسها العدو بكافة استطالاته، وعليه فإن وحدة وصراع الأضداد تمارس لعبتها الدرامية في المجابهة على ترابنا المشتعل. إِنّ رمي مفهوم “الآخر” واستخدامه كبديل مخفف لنسف لغة الخطاب المقاوم (العدو، النقيض.. الخ) يستدعي تفكيك المفهوم لتحديد الغائية ولنرى ما نريد، وعليه فإننا و”نحن” نخوض صراعاً مع “هم” لا بدّ من مراعاة التاريخ المحدد وسياق الصراع، ما يتطلّب اتخاذ موقف ، وإلا وقعنا في شبهة الحياد وتشابه القول . فالصراع تمّ في زمان ومكان محدّدين حيث وسمت العلاقة بمحدداتها وشكلها الخاص، وعندما نتكلم عن “الآخر” نتكلم عن “الآخر” الصهيوني ، أو “الإسرائيلي” كما يحلو للبعض مقاربته.. وبات الصراع (فلسطينياً – إسرائيلياً) من جانب و(عربياً – إسرائيلياً) من جانب آخر. و”الأنا” الفلسطينية في دفاعها عن هويتها تنحاز لإنسانيتها، فأنا أعرف الحق الذي ورثه أبي عن جدّي وجدّه عن سلالته .. وهكذا تصبح (الأنا – مكان)، لأنني ببساطة “هنا”،  (أنا هنا – وهنا أنا) .. أُعيد صياغة المكان، تماماً كما يعيد المكان صياغتي وهندستي وتكويني .. وتربطني وشائج توحّد بالسريس والزيتون والبلّوط ، وتكاتفني الجبال برائحة التراب والطيور بأسمائها التي أعرف، وشقائق النعمان والميرمية وزهرة القندول، وأُقلّب حجارتها في سياق الإعجاب بتشكلات الحجر الذي ربما أقوده إلى مكتبتي رغبة في الاستئناس (ليت الفتى حجر).. مقابل ذلك ما هي علاقة القادم من “هناك” إلى “هنا” بالمكان .. وإذا تاه وقادته قدماه إلى ربوة أو شعبٍ فهل سيتمكن من التعرّف إلى ما تعرّفت إليه .. وهل يعرف الطرق التي نحتها الطراق – أجدادي بخطاهم وممرات الغزالان، حيث استدرجوها إلى فخاخ الصيد .. ثمّة ادعاء لِـ”النقيض” في دفاعه المهتوك والموضوع عن الأزهار ذاتها والأشجار ذاتها والطرق ذاتها .. ويحاول عبر الجغرافيا وما اصطنعه من محو واستبدال أن يلغي التاريخ بجغرافيات جديدة، تاريخ الروح ، لتغترب عن مكانها، ولكن سلطة ذاكرة الفلسطيني ما زالت تعيد للتاريخ توهجه، وللمخيلة حضورها في استحضار الغائب وما دمّره “القادمون الجدد” .. وعليه فإن الصهيونية سعت لفبركة هوية “منقاة” لكشف تميّزها واختلافها مؤسَّسة على “أُسس سامية” في (العهد القديم)، فأوجب مقاومة مؤسسة على النسق العربي الإسلامي الذي استوعب الرسالات السماوية من حيث كونها كذلك.. هذه المقاومة وجدت أنها تقاوم “نقيضاً” أوسع من حدود فلسطين، بل نقيضاً وجد في “كيان” الاحتلال استطالة تم استزراعها في المكان لجني ثمارها لاحقاً. وعليه تجاوز الصراع الحدود الجغرافية لفلسطين التاريخية، وبالتالي فإن الهوية أصبحت أنساقاً تطاحن أنساقاً أخرى .. وعبر هذا التطاحن المفروض على الذات الفلسطينية خاصة والعربية عامة، ترفض الذات المقاومة الهيمنة كواقع وكنسق ، خاصة وأن الحرية والدفاع عن الجميل والإنساني والحقيقي هو غائية “الأنا” المقاومة. النقيض وإمعاناً في تشظية “الأنا” الفلسطينية فقد استدرجها كأيدي عاملة وفق شروط استثنائية لبناء المستوطنات وإنتاج المكان .. ما أظهر اغتراباً في جوهر “الأنا” وانشقاقاً في جوهر الروح، فـ”الأنا” في أعماق اغترابها تصبح بالنسبة لنفسها “آخر”، ترى في داخلها صحارى وشقوقاً ومتاهات، ولا تقاوم فقط ذاتها “الآخرية” خوف التشظي والانكسار كالمرآة، بل لتتماسك وتقاوم “الآخر” المتعيِّن – النقيض، وتتعدى ذلك لمقاومة “النقيض” في حدوده التي تتجاوز البعدين الفلسطيني والعربي. وعليه يصبح الصراع – صراع “الأنا مع نفسها” في جوهر الروح. – صراع الأنا” مع “الآخر – الإسرائيلي النقيض”. – الصراع بين (الشرق كنسق – مع الغرب كنسق). إن قسوة الاغتراب وضغطه على ماهية الروح ،  أربك رؤية “الأنا” لنفسها وأصابها بتصدّعات وانشقاقات عميقة، وهو ما انعكس على مقاربة “الأنا” لِـ”آخرها” الذي يتأرجح في اشتداده وامتداده بين (النقيض) والآخر الطبيعي، كالآخر الإيرلندي أو المكسيكي أو الفرنسي … الخ. وبالتالي يمكننا القول إن علاقة “الأنا” بـِ”الآخر” فلسفياً لها ثلاثة أشكال : – علاقة بينها وبين نفسها . – علاقة بينها وبين موضوع ما (كرسي، شجرة .. الخ). – علاقة بينها وبين ذات أُخرى . وبين الرؤيا الفلسفية للـ”أنا” و “الآخر” ، وخصوصية الحالة الفلسطينية واشتباك “الأنا” مع “نقيضها” تقتضي زاوية نظر مختلفة خوفاً من الوقوع في شرك الفهم الفلسفي الشامل.

مشاركة :