يصنع الرجال التاريخ عندما يحدثون حالة انقطاع مع ماهو قائم ومألوف ومتفق عليه، من أجل تأسيس رؤية جديدة داخل محيط مجتمعاتهم، مع ما في ذلك من مغامرة تصل إلى حد المخاطرة، لكن القادة التاريخيين يصنعون التاريخ ولا يصانعونه أو يمالئونه، ولا يحاولون التوفيق واسترضاء جميع الأطراف كما يفعل الساسة عادة، بل على النقيض من هذا يمتلكون رؤية تتجاوز آنية الصعاب المرحلية تحت مواضع أقدامهم، ويستغرقهم التطلع إلى أفق حلمهم الكبير باتجاه الأسمى والأمثل .. أي باختصار نحو المستقبل. والملك عبدالله بن عبدالعزيز كان رجل القرارات التاريخية، التي كانت على الغالب تحدث انقطاعا مع مرحلة سابقة وتستشرف مرحلة جديدة. ولعل أبرز مشروعين تاريخيين مسّا حياتي كمواطنة امرأة وأيضا تمتهن الكتابة، هو موقفه من تمكين المواطنة، وموقفه من الحوار وحرية التعبير كصمام أمان للمجتمع ومؤشر على تمدنه وتحضره. فالمواطنة في السنوات التسع الماضية أفسح لها حيزا في المشهد والفضاء العام بعدما كانت تتوارى سابقا في منطقة الظلال والعتمة بجوار العفاريت الذين نسمع بهم ولا نراهم، وكمون المرأة الطويل في هذه المنطقة الغامضة خلق عنها وحولها كثيرا من الأساطير والخرافات التي كانت على الغالب تشيطنها وتحجب عنها بعدها الإنساني، مع ما في هذا من انعكاسات سلبية تولد إجحافا وتقصيرا يعرقلان تمكينها من حقوقها الشرعية والمدنية والإنسانية، وأيضا مع ما في هذا من ظلم يحجبها عن حقول آمالها وقدراتها.. لذا فمواربة الباب لذلك الكائن التاريخي القابع في منطقة الظلال تحفه الأساطير والأسلاك المكهربة، اتخذت بعدها الرمزي في مطالع ولاية الملك عبدالله عندما التقى مجموعة من النخب النسائية والرجالية كنوع من كسر نمطية العلاقة في القيادات التقليدية التي على الغالب تكون المسافة بين صاحب القرار والمرؤوس محتلة من قبل البطانة والمقربين وذوي الحظوة. في بداية توليه الحكم يرحمه الله وفي بادرة كان يعلن من خلالها ملامح سياسته كان للمواطنة حيز واضح فيها، فشرفت بحضور مجلسه عددا من المرات، برفقة نخبة من زميلاتي المثقفات، وكإحدى المشاركات في جلسات الحوار الوطني، وكانت عادته يرحمه الله أن يستقبل مجاميع المشاركين والمشاركات في لقاءات الحوار بعد نهاية كل لقاء. هذه الخطوة الكبرى التي أتاحت للمواطنات مقعدا في مواضع صناعة القرار، كأنها واربت الباب لدخولهن .. ورسمت عنوان المرحلة، وعادة القائد صاحب الرؤية يوارب الباب ويلهم من حوله في تبني مشروعه. ومن يومها انطلق حراك مطرد لنساء الوطن الطموحات مازلنا نقطف ثماره إلى اليوم ، فالمرأة بخطى حثيثة كانت تخطو إلى الأمام فتعتبر كل خطوة هي مساحة محررة من أرضها المحتلة بالغياب والتهميش من المستحيل أن تفرط بها، فهي أصبحت جزءا من الحكومة التنفيذية، وتقلدت أوسمة الدولة من أرفع طراز، وأطلق اسم جامعة نورة على أكبر صرح أكاديمي نسوي في المملكة، اسم جامعة نورة هو تأسيس للمكون الأنثوي في الفضاء العام، (على حين أن مدارس البنات مابرحت تكابد طمس الهوية خلف الأرقام) وباتت تتقاسم مشروع الابتعاث مع شقيقها، شاركت في مجالس الإدارة، شاركت في الغرف التجارية، شاركت في مجلس الشورى بنسبة الخمس.. لن استرسل هنا فالقائمة تطول وتتسع .. لكن الأمر الذي يجب أن تعيه الأجيال الجديدة أن الأمر لم يكن نزهة وتيارات الرفض والمقاومة وأنا وجدنا أباءنا على أمة كانت تتمترس بحمولتها من الغلظة والشراسة والظلمة في كل منعطف. لاسيما عندما كان يتم خلط زيت الدين بماء السياسة.. ولكنها استمرت ومضت في دربها بعد أن منحت الثقة. ومن طبيعة مسيرة التاريخ أن تظل في تقدم مطرد إلى الأمام ولا تنتكس إلى الخلف .. والمرأة صارت جزءا حيويا ومهما من المسيرة التنموية في المملكة .. تظل هناك بعض الملفات المقصيات والأماني المؤجلة والاحلام الغائبة .. وراء القضبان، وسنظل نطمح ببشارات المستقبل عبر قيادتنا الجديدة حفظها الله. لمراسلة الكاتب: oalkhamis@alriyadh.net
مشاركة :