من هو رجل التاريخ؟ عادة يكون هو الذي يتجاوز الدوائر الضيقة لمحيطه، وزمانه ومكانه، ويدخل المساحات الشاسعة للخالد الدائم. رجل التاريخ هو الذي يمر على المكان ويحدث فرقا ويغادره وقد صنع انتقالا، وهو الذي دوما في المقدمة يستشرف أفقا لمسيرة جماعته باتجاه الغد. وكان سمو الأمير سعود الفيصل (رحمه الله)، إحدى الطلائع الوطنية التي تماست مع ثقافة الآخر بصورة مباشرة، ومن ثم عادت للوطن، لتكون طبقة واسعة من التكنوقراط ممن كان لهم الدور الأكبر في صناعة السعودية الحديثة. فهو كان يخبئ تحت عباءته الصحراوية شخصية واسعة الأفق عميقة الثقافة ليس فقط تخرجت في جامعة برنستون بل تتقن باقة من اللغات العالمية، شخصية استطاعت أن تتقن خرائط الدروب باتجاه الاخر، بصورة أقل تشنجا، وأن تستوعب الواجهات الدبلوماسية ومفارقة الكواليس وشروطها، لاسيما داخل دوائر صناعة القرار الدولي. تواجه أي خطوة باتجاه الغرب حاجز الصورة الذهنية التقليدية المؤطرة للعربي الساذج محدث النعمة والذي يجهل أساليب التحكم بثروة هائلة، ولكن سنوات من العمل الدبلوماسي الدؤوب والممنهج كان لها دور مهم في إحداث شرخ داخل تلك الصورة، وتبدى من خلف تلك الواجهة مملكة تمتلك حضورا قويا على المستوى الدولي، ومركز ثقل في صناعة القرار، بل أيضا لاعبا رئيسا في رسم ملامح وخرائط المنطقة. يقول وزير الخارجية الأميركي السابق كولن باول حول هذا بأن سعود الفيصل قد أسس لوبيا عربيا قويا عبر دبلوماسية في غاية الذكاء كسرت الاحتكار الصهيوني لصناعة اللوبيات. وفي هذا الخضم لم تتنازل السعودية يوما واحدا عن عروبتها في قراراتها الدولية، وظلت القضية الفلسطينية، وايجاد حل عادل لها، هما المنطلق الذي تتحرك به في المنطقة. رؤية على امتداد أجيال استطاعت أن تنجح في رسم ملامح واضحة للدبلوماسية السعودية الحديثة، ونجت بالمملكة من مصيدة الشعارات والعنتريات التي كانت رائجة بشدة في زمن حكومات العسكر ومن يسمون أنفسهم بالممانعة، تلك المزايدات والمساومات كان من الممكن أن تستدرج المنطقة لحروب دامية تهلك الزرع والضرع، لولا أن الدبلوماسية كانت في يد هذا الرجل المحنك التاريخي. استطاع أن يقود المملكة في منعطفات جد خطيرة، على سبيل المثال بعد إعلان 15 إرهابيا سعوديا مشاركا في إحداث 11 سبتمبر، وتحرك الدوائر المناوئة لاغتنام الفرصة الذهبية للنيل من المملكة، كان هو في فجر اليوم الثاني في واشنطن، يعلن المملكة شريكا رسميا في الحرب على الإرهاب. ولكن أيضا في المقابل كان جواب الحرب جاهزا ولم يغب عن دبلوماسيته، وأقرب مثال في حرب اليمن الأخيرة، عندما أكد على أهمية أن يكون هناك مقعد للحرب، فوق طاولة المفاوضات. دور المملكة في المجتمع الدولي حساس ودقيق، فهي من ناحية قبلة المسلمين الذين يمثلون ماضيها وعمقها الاستراتيجي، وفي نفس الوقت يحتم عليها دورها المحوري في المنطقة الانتماء للمجتمع العالمي. سعود الفيصل رسم ملامح الدبلوماسية في الدولة السعودية الحديثة.. وصنع هويتها الدولية.. وعندما ينعاه قادة العالم.. ورجالاته.. ويستحضرون تقديرهم واحترامهم للمملكة حكومة وشعبا فإن سعود الفيصل هنا يكمل عمله الدبلوماسي تجاه وطنه حتى بعد وفاته.. لقد مر من هنا وأحدث فرقاً.. يرحمه الله. لمراسلة الكاتب: oalkhamis@alriyadh.net
مشاركة :