عبد الإله بلقزيز دخلت الماركسيّة المجال العربيّ- في بدء اتصال العرب بها- في سنوات ما بين الحربيْن. وهي دخلتْ من طريقيْن: من طريق شيوعيّين أوروبيّين (فرنسيّين وإنجليز وإسبان وطليان) أقاموا في بلادٍ عربيّة - مثل سوريا ومصر والعراق والمغرب وتونس والجزائر- وعملوا في ساحاتها؛ في النقابات الأوروبيّة العاملة فيها، كما في بيئة أحزابهم التي كان لها فروع في المستعمرات الأوروبيّة؛ ثمّ، ثانياً، من طريق الأحزاب الشيوعيّة العربيّة التي كان للشيوعيّين الأجانب دور رئيسي في تأسيسها، قبل تعريبها عقب الجلاء الكولونياليّ عن البلاد العربيّة، الذي استمرّت حلقاتُه متعاقبةً منذ بداية الأربعينات (استقلال لبنان) إلى بداية الستينات (استقلال الجزائر). وهي حين دخلت، دخلت مقترنةً، في وعي مَن تلقّوها، بقضيّة الاشتراكيّة كهدف. وإذا كانت القضيّة هذه مفهومةً في حالِ شيوعيّين أوروبيين ألِفوا النضال من أجلها، في أوروبا، منذ منتصف القرن التاسع عشر، وتتناسب المطالبة بها مَع مجتمعاتهم التي قطعت أشواطًا في التطوّر الرأسماليّ والصناعيّ، فهي ليست مفهومة -إلى حدٍّ بعيد - في حالة أحزاب شيوعيّة عربيّة تعيش في أكناف مجتمعات متأخرة، بالكاد بدأت تعرف رسملة وتصنيعاً ونشوءاً أوّليّاً لطبقة عاملة فيها. وكما اقترنت الماركسيّة، في الوعي الشيوعيّ العربيّ، بالاشتراكيّة والعمل من أجلها، ارتبطت بالسياسة والعمل السياسيّ؛ فلم يكن يُنظَر إليها سوى من حيث هي أداة أيديولوجيّة في مشروعٍ سياسيّ. هكذا اختُزِلت، في الوعي ذاك، إلى مجرّد أيديولوجيا سياسيّة برسم الاستخدام الحركيّ، مفصولة عن مقدّماتها الفكريّة ومنطلقاتها المعرفيّة، كلحظة من المعرفة الغربيّة ترِث تراث عصر الأنوار والفلسفة الهيغليّة. وحتى «التثقيف» الأيديولوجيّ، الذي تلقّته أجيال من الشيوعيّين العرب داخل أحزابهم، ما كان ليُجاوِز نطاق العموميّات وبعض قليل من النصوص الماركسيّة ذات الطابع السياسيّ الحركيّ، كنصوص لينين السياسيّة، بِحسبانه (التثقيف) المعرفة المطلوبة والضروريّة للمنتسِب ! وهكذا لم تدخل الماركسيّة مجتمعاتنا كثقافةٍ ومعرفة، كتراثٍ من الإنتاج النظريّ والفكريّ. وسيكون لهذه المفارقة الثانيّة أثر في مآلات الماركسيّة، في المجتمعات هذه وفي حياتها الثقافيّة والفكريّة، بمقدار ما سيكون لها أثر أكبر في سيرورة عمل الأحزاب الشيوعيّة ذاتها، وفي تحجيم أدوارها في الحياة السياسيّة العامّة، في المجتمعات العربيّة، كما في تفجير تناقضاتها الداخليّة التي سيُشعِل شرارتَها جيلٌ من العاملين فيها ممّن تلقَّى معرفةً بالماركسيّة من خارج الأطر الحزبيّة، فتبدَّت له ماركسيّة أحزابه مُنْحطّة ومبتَذَلة.لم تكن الأحزاب الشيوعيّة هذه هي الحواضن الأساسية للثقافة الماركسيّة، التي سيشهد على دخولها في نسيجه بعضُ الفكر العربيّ المعاصر، بدءاً من النصف الثاني من القرن العشرين، وإنما كانت حاضنتُها الجامعات؛ الجامعات الأوروبيّة، ابتداءً، التي تلقّى فيها طلبة عرب كثر تكوينهم وتأثّر منهم مَن تأثّر بالفكر الماركسيّ، ثم بعدها الجامعات العربيّة التي شرع بعضها، منذ نهايات الخمسينات، في تدريس الماركسيّة كنظريّة في أقسام الفلسفة وعلم الاجتماع وعلم الاقتصاد والعلوم السياسيّة. ثم ما لبث رصيد المعرفة بها أن تعزّز حين ابتُدِئ في تدريسها في مادة الفلسفة في برامج التعليم الثانويّ. وأيًّا يكن الرأي في المستوى العلميّ لتدريسها في الجامعات والثانويّات - في بلدان مثل المغرب وتونس ومصر ولبنان وسوريا والجزائر وموريتانيا - فإنّ الذي لا مِراءَ فيه أنّها قُدِّمت، في المؤسّسة التعليميّة، بأفضل ممّا قدِّمت به في البيئات الحزبيّة الشيوعيّة العربيّةالمفارقة الثالثة في ماركسيّة الأحزاب الشيوعيّة العربيّة أنها كانت ماركسيّة مُسَڤْيَتَة، وليدة التأويل الستالينيّ الضّحل للماركسيّة. وسَڤْيَتَتُها تلك إنّما هي وجْهٌ ثانٍ للاتّباعيّة السياسيّة للأحزاب الشيوعيّة العربيّة حيال الاتحاد السوڤييتيّ وحزبه الشيوعيّ و«أمميّته» الشيوعيّة التي كانت جزءاً منها. وقد ذهبت العلاقة الاتّباعيّة تلك بما بقيَ للأحزاب الشيوعيّة العربيّة - وبعض ورثتها من تنظيمات اليسار الجديد المُسَڤْيَتَة - من رصيدٍ لدى الجمهور العامّ؛ إذْ ألْقَتِ القيود على استقلالها السياسيّ، وفرضتْ عليها التنازل في غير ما قضيّةٍ وطنيّة لصالح الموقف السوڤييتيّ، وأجبرت سياساتها ومواقفَها على أن تنتظم تحت سقف السياسة الرسميّة السوڤييتيّة وفي خدمة مصالحها واتجاهات رياحها وإنِ اصطدمت بالمصالح العليا للوطن والأمّة! وفي لحظةٍ بدا وكأنّ الشيوعيّين العرب جالية سوڤييتيّة أو صينيّة في بلدانهم، وزادت برّانيّتُهم عن محيطهم الاجتماعيّ! لا عجب، إذن، إن اضمحلّ تأثيرُهُم في عزّ النفوذ السوڤييتيّ، وانتهت كياناتهُم إلى ما يشبه الانقراض بعد انهيار الاتحاد السوڤييتيّ. hminnamed@yahoo.fr
مشاركة :