يقول أورهان باموق: «أن تحمل كتابا في جيبك أو حقيبتك معناه أنك تمتلك عالما آخر يمكنه أن يجلب لك السعادة»، وهي تلك العادة التي حافظت عليها عبر السنين، ان اصطحب معي كتاباً في غرف الانتظار أو السفر إذ إن لحظات الانغماس بقراءة كتاب ممتع واستغلال أي لحظة فراغ بالقراءة لا تضاهيها سعادة أخرى، واصطحبت معي ذات يوم كتاباً من القطع الصغير الخفيف بعنوان «الكتب التي التهمت والدي»، وهو عنوان مشوق لرواية بقلم أفونسو كروش الصادرة سنة ٢٠٠٩ والمنقولة إلى العربية عام ٢٠١٨ عن دار مسكيلياني بترجمة سعيد بنعبد الواحد والتي جاءت بعد عدة روايات أصدرتها الدار لكروش في نفس العام. في بداية الرواية فسر كروش العنوان وتحدث عن معنى التورية «هي ما نعمد إليه حين نريد أن نقول أشياء قد تجرح الشعور، ولتجنب ذلك نستعمل كلمات أقل حدة، مثلا يمكنني أن أقول إن والدي لم يعد من أهل الدنيا بدل أن أقول إنه مات على اثر أزمة احتقان موضعي». ويستطرد على لسان جدته: «إن هذا يمكن أن يقع حين نركز حقا على ما نقرأ، في مثل تلك الحال يمكن أن نلج إلى داخل كتاب كما حدث لوالدي، إنها عملية غاية في السهولة كإطلالنا من شرفة إلا أنها أقل خطورة». تدور أحداث الرواية حول الفكرة الأساسية التي حددها الكاتب في الصفحة الأولى «سأتعرف على والدي وأقتفي أثره، وأجول بين كل الكلمات التي جال بينها وقد أعثر عليه خلف جملة من الجمل، بين شخصيات رواية من الروايات»، تقمص كروش شخصية القارئ الذي يقرأ بعمق ويعيش في عالم الرواية، ويشعر بأبطالها ويفهم ويدرك تصرفاتهم، مُبرهناً على أن القراءة السطحية ليست قراءة بالنسبة لبطل الرواية فهو يرغب بالتعرف على والده من خلال كل تلك الروايات وما كتبه في الهوامش حتى لو لم يلتق به فعليا، وجاء على لسان البطل «الإنسان ليس مجرد خلايا وإنما ذكريات وأفكار، فالكتب تعيش عبر شخصياتها وأفكارها وعلى القارئ أن يفهم تفاصيل ورمزيات الرواية وأن لا يتجول بسطحية عبر السطور». شحصيات من الأدب الكلاسيكي استدعى كروش شخصيات من كتب الأدب الكلاسيكي مثل جزيرة الدكتور مورو والجريمة والعقاب لفيودور دوستويوفسكي و ٤٥٢ فهرنهايت لراي برادبري، وأيضا كتاب الكوميديا الإلهية وجزيرة الكنز وغيرها، ومن خلال حوار الشخصيات الأدبية حاول الكشف عن مكنوناتها وقراءة أحوالها الانسانية بمعزل عما جاءت عليه في الروايات الأصلية، وخلق عالماً موازياً من أبطال الروايات وجمعهم في رحلة ذهنية محاولاً النفاذ إلى الهواجس الداخلية لتلك الشخصيات، واستطرد في التفاصيل وبقي في الأماكن الغريبة التي لم نعرف عنها إلا من خلال تلك الكتب، وكأنه أراد أن يبرهن تأثير تلك الشخصيات الروائية لمن يشكك في جدوى قراءة الروايات ومدى الفائدة المرجوة من ورائها. تحدث الكاتب في الرواية عن بعض مشاكل العصر الاستهلاكي، حينما يخضع كل شيء للكثرة، فنحن نعيش في مملكة الكم، محاطين بالأشياء كي ننسى أنفسنا وما يجرى هنا بدواخلنا، وذكر على لسان بطل الرواية «أننا نرغب في المعاناة حين ندرك أننا ارتكبنا شيئا فضيعا، وكأننا نود أن ندفع ثمن فعلنا، ومرد ذلك الى أن الانسان كائن معقد تحكمه أشياء غاية في البساطة». كما كتب عن قراءة الوجوه المختبئة وراء الزمن، وشبهها قائلا إن ذلك مثل قراءة الكلمات، نرى حروفا فنحولها بالقراءة الي أصوات وأفكار والشيء نفسه ينطبق على الوجوه، إن الوجوه لغة ولابد من معرفة قراءتها. وفي حديثه عن الخيال قال: «انه هروب مزعوم من الواقع والانسانية حين لا تتحمل كثير من الواقع، فالخيال ليس هروبا من القبح ومن الرعب ومن المظالم الاجتماعية وإنما هو بالضبط تصميم لبناء بديل، هندسة فرضية لمجتمع أكثر انسجاما مع انتصاراتنا الانسانية والاخلاقية»، كما شبه الكتب التي تستند ظهورها إلى كتب أخرى فوق الرفوف بأنها عوالم متوازية، يبدع الكاتب في نسجها مستعينا بخياله الخصب وقدرته على خلق حكايات جديدة. تقول كاثرين لاسي: «الكتابة هي المكان الذي تضع فيه كل قراءاتك». وشخصيا أحب الكتب التي تتحدث عن الكتب، وجدت أن فكرة الرواية ذكية لكن برأيي الخاص أن الفكرة كانت أجمل من الطرح ذاته، فنحن لم نتعرف على والده بعد أن التهمته الكتب وتاه وسط الحروف والعناوين، إذ إن الراوي اتخذ من الكتب والقراءة ذريعة للبحث عن طبيعة الانسان النفسية، وما يعتمل بداخله من الخير الشر والقيم النبيلة مثل الحب والصداقة وجميعها مواضيع اشتغل عليها كبار الأدباء على مر العصور، كما استلهم كروش وصف المتاهة من الكاتب الأرجنتيني بورخيس حين قال: «ثمة عدة أماكن يمكن أن يتوه فيها المرء، لكن لا يوجد مكان أكثر تعقيدا من مكتبة، بل إن الكتاب الواحد يمكن أن يمثل مكان نضيع فيه ونتوه». وعلى الرغم من أن القراءة قد لا تبدو للوهلة الأولى عملا ابداعيا، إلا أنها بالمعنى الأعمق كذلك، فلو تساءلنا كيف تكون الكتابة عملا ابداعيا؟ يجيب هنري ميلر قائلا: «يكون الابداع في الربط بين الافكار وتحليلها وفي تكوين معرفة خاصة، الابداع في فلسفة الأفكار فتصبح الكتابة عملا ابداعيا حين تخلق الاسئلة في ذهن القارئ، وتتملكنا الحيرة والحياة والشغف فتغير القناعات». ولهذا شرعت في قراءة رواية الفونسو كروش الثانية الصادرة عن نفس الدار بعنوان (الرسام تحت المجلى)، وفوجئت برسومات العيون في صفحة الرواية الأولى مع محتوى الكتاب، حيث لم أعتد وجود رسومات أو صور في صفحات الروايات المعتادة، وقلبت الصفحات لأجد المزيد من تلك العيون بأشكالها المختلفة التي تشبه تلك «الخربشات» التي نتركها على الورقة في لحظات الفراغ. بدت الرواية منذ صفحاتها الأولى مختلفة وغير اعتيادية، وتساءلت مع دهشتي: ما المانع من وجود الرسومات أو الصور في صفحات الروايات بدلا من الصفحات المليئة بالكلمات والفقرات، إن كان لوجودها هدف يخدم حبكة الرواية وليس فقط للزينة. قصة واقعية وكما جاء في المحتوى تم تقسيم الرواية إلى كتاب الأعين المفتوحة وكتاب الأعين المغمضة، مقدمة وخاتمة، هذه كل الرواية مع وجود الكثير من الرسومات. قاومت فضولي بعدم قراءة الخاتمة في البداية اختصاراً للوقت لكني استعنت بالصبر والجلد على تقليب الصفحات، وإجبار نفسي على القراءة لأكتشف في نهاية الرواية انها تستند على قصة واقعية جرت مع جد وجدة الكاتب، حيث سكن في بيتهما رسام لاجئ وكان ينام مختبئا تحت المجلى، والاسم الحقيقي لهذا الرسام هو إيفان سورس، الذي جاء على لسانه في احدى الصفحات أنه لم يحب «المزلاقات» قط لأنها تعلمنا أن لحظة قصيرة جدا من السعادة تستلزم منا أن نصعد درجاً، وأن الجهد الذي نبذله لنحقق السعادة أكبر بكثير مما نستمتع به. سورس الشخصية الاساسية يبدو غريب الأطوار لم أتفهم سبب عقوقه لوالدته، التي رفضت موت أبيه ما أودى بها للجنون فتركها في مصحة وسافر بعيدا. على مدى صفحات الكتاب استفاض كروش في شرح حالات العيون الطبيعية (مغمضة ومفتوحة) بل أكثر هما (متقدة، ومطفأة) لكنه رغم ذلك لم يستوعب ما يعينه الناس بـ «اتقدت تعابيره» أو «أشرقت عيناه» أو حتى «ملأ النور العالم» إذ ان عالمه تشكل من الظلال ولم يكن فيه قطرة من الضوء. ترواح الأسلوب بين الوصف المبالغ فيه حين لا يريد الكاتب مغادرة الفكرة إلى حدث آخر، مع وجود بعض التشويق في صفحات اخرى، وبالرغم أن الأحداث ليست متسارعة أو جذابة لكن تملكتني رغبة بإكمال الرواية لمعرفة مصير البطل، واكتشفت أن آخر صفحة من تلك الرواية هي البداية الفعلية لها، حيث إن الرواية تحمل ذاكرة الكاتب نفسه مع اضافة بعده الخاص الذي جعلها نوعا ما مختلفة، اذ قام بتحويل واقعة حقيقة إلى عمل أدبي تخليدا لذكرى عائلية، لا ربط فيها بين الأحداث وبدون تفاصيل زمنية ولا مكانية فبدت الصور البصرية مبهمة ومتروكة لخيال القارئ. كروش في هذه الرواية له هاجس واحد هو علاقة الفن بالواقع والواقع بالفن، وكتب: «انه لأمر محزن بل تعاسة أن تولد فنانا، لأنك حين تنظر إلى الشيء ستنظر وكأنك تراه للمرة الأولي في كل مرة» كما أسهب في التحدث عن فلسفة الفن والأشكال الهندسية، وتحدث بلسان سورس المفتون بالدائرة والتي يعتبرها أكثر الأشياء طبيعية، وهي وحدها القادرة على احتواء كل شيء. شخصيات باهتة الروايتان (الكتب التي التهمت والدي، ورسام تحت المجلى) قصيرتان نسبياً إذ تم تقسيمهما لفصول قصيرة لا تتجاوز الثلاث صفحات. لها عناوين وفقرات تسهل قراءتها، تحتوي بعض الفقرات على أفكار فلسفية يؤكدها حينا ثم ينقضها. الشخصيات باهتة على الرغم من محاولة إلباسها القدرة على التعبير عن فلسفتها الشخصية إلا انها ما زلت سطحية ذات بعد واحد. كما أن الأحداث بطيئة جدا لدرجة أني شعرت بثقل الصفحات وأنا اقرأ، واعترضتني تلك الجملة أثناء قراءتي: «أحضر ساعة رملية واكسرها ليتوقف الرمل عن قياس الوقت» وجعلتني أتوقف عن القراءة، متسائلة عن جدوى قراءتي لتلك الرواية، وما جدوى كتابتها وكل تلك الصفحات التي قد تمتلئ بعض الأحيان بكلام فارغ، من دون معنـى أو هدف واضح بقيت أبحث عنه طوال قراءتي لتلك الرواية. وكما يقول آفونسو كروش واصفا القراءة بأنها عملية لا تنتهي: «آخر صفحة من كتاب هي أول صفحة من الكتاب الذي يليه»، تناولت كتابا آخر بعنوان «لماذا نكتب» يحوي مقالات مختلفة لعشرين كاتب ناجح يجيبون على اسئلة الكتابة لعلي أستطيع معرفة سبب تأليف أو الدافع وراء تأليف ونشر الكتب، خصوصا في عصر لم يعد المؤلف في حاجة لموافقة الناشر، بل يستطيع إنشاء مدونة إلكترونية يكتب فيها ما يشاء ليصبح كاتبا مشهورا. وقد يكون السبب الحقيقي من وراء الكتابة في رأيي هو البحث عن الهوية الحقيقية والتعرف على الذات، فتكون الكتابة حاجة نفسية ملحة لوضع إطار نحو الشخصية الحقيقية للكاتب. يذكر أن الفونسو كروش مؤلف الروايتين كاتب برتغالي ولد في دافوز عام 1971، ودرس في كلية أنتنيو آرينو للاأداب في لشبونة وكلية الفنون الجميلة، وإضافة إلى الكتابة هو مصور وموسيقي.
مشاركة :