أفونسو كروش: علينا ألا نترك الشعراء في الحدائق

  • 5/17/2017
  • 00:00
  • 1
  • 0
  • 0
news-picture

في الأزمنة الرقمية، والأسئلة المختلّة حول عوائد القصيدة وأرباح الثقافة، يصير الشعراء مثل «حيوانات أليفة»، تباع وتشترى، لها متاجر خاصة كما القطط والكلاب، يقتنيها المراهقون الرومانسيون، حتى إذا ضاق الأهل بكائنات الشعراء، يتم تركها على قارعة أقرب حديقة.. على هذه الفرضية الساخرة المرّة تقوم حكاية «هيا نشترِ شاعراً» للمبدع البرتغالي، أفونسو كروش، الذي يلخص الواقع في رواية قصيرة، أو قصة طويلة (نوفيلا) بعيدة عن الثرثرة والمطولات. تتهكم الحكاية من أصحاب الحسابات والأرقام وعديمي الخيال، يهب المؤلف البرتغالي للشخصيات رموزاً وحروفاً، يتجنب المجاز المفرط، ظاهرياً، ويخترع لغة بحدين متقابلين، يختزل الأسماء والأوصاف، يجعل أصحاب الخيال مجرد أشياء. 80 صفحة تقع فيها «هيا نشتر شاعراً» التي ترجمها عبدالجليل العربي، وصدرت عن دار مسكيلياني للنشر في تونس. عن المؤلف مؤلف «هيا نشتر شاعراً»، أفونسو كروش، من مواليد عام 1971، يجمع بين الكتابة والإخراج والموسيقى والرسم. له نحو 13 كتاباً، من بينها أربع روايات. وقال عنه أحد النقاد البرتغاليين: «إن أفونسو كروش قادر على أن يقصّ حكايةً في سطرين» لتمكنه من الفكرة والأسلوب وتفاعله مع روح عصره، فقد استطاع أن يؤسس نهجاً روائياً برتغالياً جديداً حيث تلتقي السخرية بالتأملات الفكرية. وتتقاطع القضايا الفلسفية بالموضوعات اليومية. ترجمت أعمال الكاتب إلى لغات عدة، ومن بينها العربية، كما ورد في التعريف بأفونسو كروش في البرنامج الثقافي لمعرض تونس الدولي للكتاب، الذي حلّ المبدع البرتغالي ضيفاً على فعاليات دورته الأخيرة. للتسلية ومقاومة الضغط وخفض الكوليسترول، حتى إن فتاة الرواية المراهقة التي تحب الإبداع، وطلبت من أبيها أن يشتري شاعراً، وترى أن الثقافة لا تستهلك، فكلما استخدمتها زادت أملاكك، تقابل من الجميع بالتهكم؛ في البيت وكذلك في المدرسة. تحول القصة الشاعر إلى «فرجة»، تأتي صديقات الفتاة ليشاهدن هذا الكائن: «أخذت صديقاتي إلى البيت لرؤية شاعري.. كانت C76 تلبس تنورة برعاية شركة مشهورة للتدليك. دهنت أظفارها بثلاثة سنابير بلاستيكية بنية. وكانت E60 تلبس سراول جينز برعاية مكتب سياحة شرقي. توقفتا معاً عند رؤية الشاعر وتمتمتا بينهما بشيء ما. أشارت E60 إلى الجملة المكتوبة على الجدار قائلة: لقد وسخ الجدار. كنت أعتقد أن الرسامين فقط يفعلون ذلك. ماذا تقصدين؟ سألت C76. مثل الرسامين الذين يقومون بكثير من الأوساخ. وبماذا ينفعون؟ الرسامون؟ نعم. لا ينفعون لشيء. غير مفيدين. وماذا يفعل الشاعر؟ ينظم قصائد. قلت. وبماذا تنفع؟ تنفع لأشياء كثيرة. هناك قصائد تصلح لرؤية البحر. فنظرتا إليَّ بعيون جاحظة جداً». تغير المسيرة لا تستمر الرواية على هذه الوتيرة، إذ تعيد للشعر مجده، وتقيم له وزنه التاريخي، تتغيّر مسيرة الحكاية بعد التأزم وهجران الشاعر وتركه على باب حديقة، لتجعل ذلك المبدع المهجور الذي سخرت منه طويلاً بمثابة الملهم، وحلّال العقد عبر كلماته الهادئة التي قاومها كثيرون وتهكموا عليها، إلا أنها كانت بمثابة مصابيح؛ فالأب الاقتصادي الذي كان يحسب كل شيء بدقة، باحثاً عن الربح، تعرّض لأزمة كبرى في مصنعه، لكنه استطاع أن ينقذ تجارته «من الإفلاس بفضل انقلاب عبقري صار بعد ذلك مرجعاً يدرس في المحاسبة. من أين جاءته تلك الفكرة، سألوه.. مجرد بيت شعري حضر في ذاكرته وحل الأزمة». يستمع الكل في النهاية للشاعر الذي يرى أن قصائده تحرّر الأشياء، الحجر والبشر: «حين ندرك شاعرية الحجر فإننا نحرره من تحجره، ننقذ كل شيء بالجمال، ننقذ كل شيء بالشعر، ننظر إلى جذع ميت فنبعث فيه الحياة، هو فقط نسي ماذا كان، علينا تحرير الأشياء وهذا عمل كبير، أعرف أن أشياء كثيرة في حياتي تغيرت بفضله، لذلك لن أتخلى أبداً عن الجلوس إلى جانبه». لكن أي شاعر ذلك الذي تمجده الرواية القصيرة، إنه الشاعر الحقيقي، لا ذلك الذي يمتلك ماكينة تعيد تدوير الكلمات، وتحيطها بهالات فارغة، فالحكاية تحتفي بأصحاب المواهب الحقيقية، وتحاول رد الاعتبار إليهم، مهما تبدلت القيم واختلت المقاييس في مجتمعات تفلس وتخسر في كل شيء، وتحمّل الأوزار للمثقفين والشعراء وحدهم، وكأنها تحاول التخلص من كل ما يمت إلى الخيال بصلة. «ما يشبه الخاتمة» بما يطلق عليه «ما يشبه الخاتمة» يذيّل أفونسو كروش قصته، لا يكتفي بتصوير العوالم الساخرة، وحسابات المكسب والخسارة، بل يورد ما يشبه البيان المباشر عن قيمة الثقافة والشعر، يخاطب المسؤولين في بلاده (البرتغال التي تعرضت لأزمات مالية) عن ضرورة إصلاح الحال، والنظر إلى الفن برؤية مختلفة، ويخاطبهم بلغتهم، ليقول إنه حتى بلغة الأرقام الثقافة رهان رابح.. وسيلة لتحسين نمط الحياة، ومستوى المعيشة، فالشاعر ليس مجرد كاتب قصائد، بل صاحب خيال وشخص مبتكر، ومصمم «بناء بديل، هندسة فرضية لمجتمع أكثر انسجاماً مع انتظاراتنا الإنسانية والأخلاقية.. الخيال والثقافة يبنيان كل ما نحن عليه، لم نولد بفراء وأسنان ومخالب، وإنما صنعنا ملابس وأدوات كانت دائماً نتاج الخيال والثقافة. الحقيقة تنقذنا لأسباب واضحة ولكن الخيال أيضاً يمكن أن ننبه إلى أن هناك نمراً يقترب منا، فمن المهم قول الحقيقة، الملاحظة، لكن لندافع عن أنفسنا نحتاج، وقبل أن يقترب منا الحيوان، إلى تخيل إمكانية نجاحنا. حرفياً الخيال ينقذنا، فلأننا تخيلنا استطعنا أن ندرك ماذا علينا فعله، واستطعنا امتلاك الأدوات أو الخيارات الضرورية لرد الفعل. فالحيوانات تولد بحقيقة صلبة ما يقلل لديها الحاجة إلى التعلم؛ نحن نولد بحقيقة أقل ولكن بإمكانات وبأسلحة وليدة الخيال: نحن نبتكر. فشوكة أو كماشة لهما وظيفة واضحة، ومن هذه الناحية تفيدان أكثر من بيت شعر، ولكن الشوكة أو الكماشة كانتا نتيجة لابتكار، ولتحقيق ذلك لابد من تخيلهما وابتكارهما. فعندما ننظر حولنا ونرى كرسياً، طاولات، ملاعق، فوانيس، أقلاماً، كتباً، فكل ما نراه ليس أشياء ولدت معنا، لكنها ولدت من الخيال، من الأفكار، فالعالم الذي يحيط بنا هو نتاج الثقافة، المجتمع يكون أفضل إن نحن تخيلنا أفضل». ويتزين ختام الكلمة الأخيرة بما ردده بعض شخصيات القصة في النهاية، وما يطلقون عليه وصف «صلاة»، كي لا ينسوا ذلك: «علينا ألا نترك الشعراء في الحدائق» وكأنهم عبء مثل «حيوانات أليفة» تسلينا بها حيناً.. ومللناها.

مشاركة :