هو عجيبٌ فريدٌ؛ في كل ما كتب وترجم وأبدع؛ فمفتاح شخصيته؛ هو الإجادة والتبريز؛ ما وسعه ذلك! عناوينه، واختياراته في الترجمة؛ تدل على حسه العالي، ودقته، واستطالته العلمية الموسوعية! زاوج بين العلمية في أعلى درجاتها؛ وبين البلاغة الفنية في أروع صورها؛ فكان من أمهر المهرة في هذا الباب! أجل أجل؛ لقد حلَّق العلاّمة الدكتور/ الطاهر أحمد مكي (1924-2017م) عميد الأدب المقارن- عالياً؛ وبعيداً جداً عن الآخرين في ميدان الترجمة؛ عندما توالت مُتَرْجماته من الآداب الغربية: الإسبانية، والفرنسية، والإنجليزية، والقشتالية، والبرتغالية، والإيطالية، والهولندية، واللاتينية إلى اللغة العربية؛ إذْ إنه أحال النص المترجَم إلى خَلَقٍ آخر؛ فكأنه من تأليفه، وإبداعه؛ بأسلوبه الفني البديع؛ وفهمه الدقيق لمراد المؤلف؛ ولعلو كعبه في اللغة المنقول منها؛ وفي اللغة المنقول إليها! ومَنْ يقرأ ترجماته القشيبة؛ لا يدرك أنه يقرأ ترجمةً؛ بل يُوْقِن تماماً؛ أنه يقرأ لأديب غربيٍّ؛ بقلمٍ عربيٍّ رصينٍ؛ لروعة الأسلوب؛ وسحر الصياغة؛ ومتانة السبك؛ والفهم الواعي لأفكار المؤلف! إذاً؛ فهذا هو الطاهر مكي؛ عالِماً، ومترجماً؛ ومبدعاً؛ وفنّاناً؛ وموهوباً! شهادة محمود علي مكي؛ بحق الطاهر مكي! وعن مكانة الطاهر مكي مُتَرْجِماً عاليَ الأسلوب، وأديباً فائق المنهج؛ قال الدكتور/ محمود علي مكي في حفل استقبال الدكتور/ الطاهر أحمد مكي عضواً بمجمع الخالدين اللغوي في القاهرة؛ في عام 1999م: «وترجمات الطاهر مكي نموذجٌ للإتقان والجمال الفني؛ نرى فيه التوازن الذي لابد أن يتوافر بين معرفة النص المترجَم عنه، وفهم مقاصده، وبين تمكُّنه من اللغة التي يترجِم إليها؛ وأول ما أُشير إليه من ترجماته؛ نقله لـ(ملحمة السِّيد)، وهي أول شِعرٍ إسبانيٍّ؛ يصل إلينا؛ بكل ما تحمله إلينا من خشونةٍ، وبداوةٍ في لغةٍ بيِّنة الصعوبة؛ ومع ذلك؛ فقد قدَّم إلينا الطاهر مكي هذا النص العسير في لغةٍ جزْلةٍ قويمةٍ؛ استطاعتْ أن تحمل إلينا قِيَمه الجمالية؛ وقد قدَّم للنص المترجَم؛ بدراسةٍ وافيةٍ في حياة هذا المغامر القشتالي؛ الذي عاش في بيئةٍ عربيةٍ، وتأثر بحياة المسلمين الذين عايشهم، وكانوا يُؤلِّفون شطراً كبيراً من جنوده، ثم استقر في نهاية حياته في بلنسية؛ وكأنه أحد ملوك الطوائف المسلمين. وقد نختلف مع الطاهر مكي في بعض تأويلاته؛ مثل ردِّه اللقب الذي عُرِفَ به هذا المُغامِر؛ وهو (السِّيد) إلى معنى (الذئب) مُخالِفاً بذلك؛ ما اتفق عليه أكثر الباحثين؛ من أنه الصيغة الدارجة للقب السيد العربي؛ ولكن فيما عدا ذلك؛ ترى في ترجمته مغامرةً كبيرةً؛ تكلَّلتْ بالنجاح والتوفيق»! الطاهر مكي وطلاوة الأسلوب! ويضيف محمود علي مكي قائلاً عن منهجية الطاهر مكي في الترجمة وريادته، وروعة أسلوبه: «وتلا ذلك؛ ترجمات لعديدٍ من دراسات المستشرقين الفرنسيين، والإسبان حول مختلف الموضوعات الأندلسية؛ وعن الفرنسية ترجم الطاهر مكي كتاباً لبروفنسال (الحضارة العربية في إسبانيا)، وهو مجموعة محاضرات، تتناول بعض جوانب الحضارة الأندلسية. وعن الفرنسية أيضاً ترجم كتاب(الشعر الأندلسي في عصر الطوائف)، ويعد أوفى دراسةٍ ظهرت حتى الآن لفترةٍ من أزهر فترات الشعر الأندلسي، وهي عصر الطوائف؛ الذي كان عصرَ تدهورٍ سياسيٍّ واجتماعيٍّ، ولكنه كان على الرغم من ذلك؛ عصرَ نهضةٍ كبيرةٍ في سائر ألوان الثقافة، وفي الشعر بخاصةٍ. وعن الألمانية؛ كانت ترجمته لجزأين لمؤلَّف كبير للمستشرق فون شاك بعنوان (شعر العرب وفنِّهم في إسبانيا وصقلية)، وهو كتابٌ يرجع تأليفه إلى سنة 1865م، وكانت طبعته الثانية سنة 1977م وكان يعد عند ظهوره، وحتى سنواتٍ قليلةٍ بعد ذلك؛ أحسنَ ما كُتِبَ عن الشعر الأندلسي؛ ولهذا سارع بترجمته إلى الإسبانية أديبٌ؛ لم يكن مستشرقاً إلا أنه كان شاعراً، وكاتباً ذوّاقاً للأدب الجيِّد؛ هو خوان باليرا، وكان إلى جانب ذلك أندلسياً من مدينة قبرة؛ مهد أول مُبْتَكِر للموشحات الأندلسية؛ مُقَدَّم ابن مُعافَى، أو محمد بن محمود القبري؛ فاستطاع أن يُقَدِّم ترجمةً رائعةً للنص الألماني؛ أعانه على ذلك أيضاً؛ إعجابه وتقديره لحضارة المسلمين في الأندلس. وعلى الرغم؛ من قِدَم هذا الكتاب؛ الذي كان اعتماده في المقام الأول على كتابات المستشرق الهولندي دوزي، وأنَّ ما نُشِرَ حتى أيامه من النصوص الأندلسية؛ كان قليلاً؛ فإنه استطاع أن يُحْسِن استخدام ما توافر له من مادةٍ شعريةٍ، على نحوٍ جديرٍ بكل تقديرٍ. ولهذا؛ فإن الطاهر مكي؛ لم يرَ بأساً في الإقدام على ترجمة الكتاب، لا عن أصله الألماني؛ وإنما عن ترجمته الإسبانية، ونحن نعلم ما يكتنف مثل هذه الترجمات عن لغة الوسيط من مخاطر؛ ومع ذلك؛ فقد جاءت ترجمته لهذين القسمين من كتاب دوزي؛ على ما عهدنا من سلامةٍ، وجمال أداء، وكان الجزآن اللذان نشرهما من هذا الكتاب، هما القسم الأول من المجلد الخاص بالشعر، والمجلد الأخير الخاص بالفن، أما الجزء الخاص بالشعر؛ فإنه عرض عام للشعر الأندلسي، مع مختاراتٍ أحسن انتقاءها، وملاحظات لا تخلو من القيمة. وأما الجزء الخاص بفن العمارة؛ ففيه ملاحظاتٌ؛ لم تفقد جِدَّتها حول الإسلام، وموقفه من التصوير، وربما كان أهم ما في هذا الجزء؛ ملاحظاته حول الفن الإسلامي في صقلية، ثم المعمار العربي الإسلامي في جزيرة مالطة»! حكاية الطاهر مكي مع الترجمة! وعن رهافة حس الطاهر مكي في الترجمة؛ تقول الدكتورة/ يمنى رجب في رسالتها للدكتوراه؛ التي عنوانها (منهج الطاهر مكي في الدراسات المقارنة نظراً وتطبيقاً)؛ والتي نالتها بمرتبة الشرف عام 2009م في كلية الألسن بجامعة عين شمس بمصر، صـ370: «لا تبدو الترجمة الأدبية في حياة الطاهر مكي حدثاً عابراً؛ بل لقد كانت رافداً مهماً من روافد ثقافته وتكوينه في البداية؛ ونِتاجاً مثمِراً متأصلاً بعد ذلك». الذين أثَّروا في الطاهر مكي أدبياً! ويحكي الطاهر مكي لها قصته مع الترجمة متأثراً ومؤثراً في لقاءٍ تسجيليٍّ معه عام 2008م؛ فيقول صـ من370 من رسالتها: «كانت البداية في المرحلة الثانوية؛ فقد كنتُ أقرأ (آلام فرتر) لجوته الألماني، وترجمة أحمد حسن الزيات عن الفرنسية، وكنتُ وأنا أقرأه أبكي، واكتشفتُ أنه أبكى الناس، ودفع بعضهم إلى الانتحار؛ لأن موضوعه قصة حبٍّ حزينةٍ، ولا أزال أذكر الموقف الذي أبكاني فيه؛ كنتُ على النيل، وبكيتُ على البطل. الكتاب الثاني: (رفائيل) قصة رومانسية من الأدب الفرنسي، وترجمها الزيات أيضاً، وكنتُ أميل إلى الكتب التي تترجم في أسلوبٍ أدبيٍّ رائعٍ.. وقد تأثَّرتُ بأسلوب أحمد حسن الزيات في الترجمة، وأسلوب الدكتور/ محمد عوض محمد؛ حيث ترجم (فاوست) وقرأتها. وقبل سفري إلى إسبانيا؛ كنتُ أعُدُّ نفسي لبعثةٍ إلى فرنسا؛ ولذلك درستُ اللغة الفرنسية؛ لكنْ عندما قامتْ حرب عام 1956م قطعت علاقتنا مع فرنسا؛ فجاءتْ مِنْحَةٌ إلى إسبانيا، وسافرتُ إلى هناك، ولم أكن أعرف من اللغة الإسبانية شيئاً؛ فبدأتُ أتعلَّمها، وكان تدريس اللغة هناك صعباً؛ فقد خرجتْ إسبانيا من الحرب الأهلية، وكل شيء فيها يحتاج إلى التطوير. وبعد عامٍ؛ كنتُ قد قطعتُ شوطاً كبيراً في تعلُّم اللغة الإسبانية؛ لأنه كان عليَّ أنْ أجتاز امتحاناً تحريرياً من أربع مواد، وكلها بالإسبانية. أمّا المادة الخامسة: الحضارة الإسلامية، والتاريخ الإسلامي؛ فكان امتحانها شفهياً. ولكي يتقدَّم الطالب بالتسجيل للدكتوراه؛ لا بد أن يجتاز هذه الامتحانات، وأن يتقدم ببحثٍ صغيرٍ؛ تناقشه لحنةٌ مكونةٌ من ثلاثة أساتذةٍ؛ فكتبته بلغتي الإسبانية، وأعطيته أستاذي آنذاك، ومشرفي فيما بعد إميليو غرثيا غومث؛ فسألني: مَنْ كتبه لك؟ فأجبته: لم يكتبه أحدٌ؛ بل كتبته بنفسي! فضحك غومث، وقال: أنت كتبته بعد عامٍ واحدٍ، وأنا أدرس العربية منذ خمسين عاماً، ولا أستطيع كتابة خطابٍ صحيحٍ باللغة العربية، وطلب مني؛ أنْ يُراجِع البحث إسبانيٌّ أولاً؛ ثم يُراجعه غومث فيما بعد. وكان هذا أول احتكاكٍ لي باللغة الإسبانية»! مكتبة الكونجرس تقتني ترجمات الطاهر مكي! ويضيف الطاهر مكي قائلاً؛ ليمنى رجب عن أبعاد تجربته العريضة المديدة البليغة مع الترجمة الأدبية صـ371: «أول كتابٍ ترجمته كان (مع شعراء الأندلس والمتنبي) واستغرقتُ خمس سنوات في ترجمته؛ وكانت ترجمته رائعة؛ حتى إنَّ مكتبة الكونجرس الأمريكية؛ كانت عندما تشتري الكتب في مصر؛ تأخذ الكتب المُؤَلَّفة فقط؛ فلا تأخذ المترجمة؛ باستثناء عددٍ محدودٍ؛ لأن ترجماتهم لها طابعٌ خاصٌّ؛ فتشتريها؛ وكان من بين هؤلاء؛ أنا؛ وكان سبب ذلك؛ رواج الكتاب؛ فقد طُبِعَ أكثر من سبع مرّات»! ويقول الطاهر مكي؛ ليمنى رجب صـ372: «وفي خلال ذلك؛ كنتُ أترجمُ بعضَ قصائد الشعر، وأُرسلها إلى المجلات، ولم أجمعها بعد في كتابٍ؛ وأُفَكِّر في ذلك». وتستعرض يمنى رجب منهجية الطاهر مكي في الترجمة؛ فتقول صـ377: «وحين نعرض لترجمات الطاهر مكي؛ نجد من الأهمية بمكانٍ؛ أنْ نقرأ مُقَدِّمات الترجمات؛ فهي يُوَضِّح: نبذة عن المؤلف الأجنبي، وأهمية الكتاب، والدافع إلى ترجمته، ومنهج المترجم. ونلحظ أن ترجمة الطاهر مكي غير حرفيةٍ؛ بل هي تُحيلُ النصَّ الأجنبيَّ إلى نصٍّ عربيٍّ جديدٍ؛ مُحافِظاً على الفكرة الأصلية؛ وحريصاً على الدقة، والأمانة، لكن في سياقٍ عربيٍّ؛ يتسم بالجزالة، وعمق الألفاظ، وتظهر فيه ثقافته العربية، وتكوينه العربي الأصيل».
مشاركة :