أزمة الديمقراطية الليبرالية بقلم: سلام السعدي

  • 12/10/2016
  • 00:00
  • 4
  • 0
  • 0
news-picture

لا تكمن أزمة الديمقراطية الليبرالية في صعود اليمين فحسب، بل باتضاح أن قيمها التي طالما فاخرت بها ليست راسخة في وعي وسلوك المجتمعات الغربية على النحو الذي كان يعتقد به. العربسلام السعدي [نُشرفي2016/12/10، العدد: 10481، ص(9)] تعيش الديمقراطية الليبرالية حول العالم أزمة عميقة تتبدى بانحسار هيمنة أحزابها وتبدد جاذبية قيمها التي بدا خلال العقدين الماضيين أنها انتصرت للأبد. لا يمكن التنبؤ بالمستقبل، ولكن الحاضر يتجه بثبات نحو المزيد من الرجعية: انتخاب دونالد ترامب في الولايات المتحدة الأميركية، صعود أحزاب اليمين الأوروبي واقترابها من السلطة، تزايد سطوة ونفوذ نظم تسلطية محافظة وخصوصاً روسيا والصين، وأخيرا، ما يبدو كأنه هزيمة مؤلمة للربيع العربي، ولما حمله من آمال بالتحرر الفردي والجماعي. قضى الجنرال الإسباني فرانسيسكو فرانكو على خصومه في حرب أهلية طويلة وحكم البلاد لأربعين عاماً (1936 – 1975) بالحديد والنار. فعل ذلك بدعم من النازية الألمانية في البداية، ولكنه لاحقا نجح في الحصول على دعم الولايات المتحدة الأميركية التي تعاملت معه كنظام أمر واقع في منطقة كانت بحاجة ماسة للاستقرار. تتكرر تلك التجربة اليوم في سوريا، إذ يحطم بشار الأسد معارضيه بوحشية لا مثيل لها، وبدعم من روسيا التي تشبه إلى حد بعيد القوى النازية والفاشية التي برزت بعد الحرب العالمية الأولى. كما يبدو الأسد أقرب من أي وقت مضى للحصول على الدعم الأميركي والأوروبي باعتباره نظام استقرار للمنطقة. بعد موت فرانكو، انتعشت الديمقراطية الليبرالية حول العالم. هُزمت النازية والفاشية في الحرب العالمية، وسقطت الدكتاتورية العسكرية في إسبانيا وقبلها في البرتغال. وأخيرا، انهار الاتحاد السوفييتي لتخرج الديمقراطية الليبرالية أكثر جاذبية لشعوب العالم، وإن بالضد من إرادة الحكومات الغربية في حالات كثيرة. شكلت تلك المرحلة “نهاية التاريخ” بالنسبة إلى السياسي الأميركي فرانسيس فوكوياما الذي بدا كالفيلسوف الألماني الشهير هيغل والذي رأى في الدولة الألمانية القوية والموحدة تحت قيادة بسمارك نهاية التاريخ، أو بالأحرى اكتمال ذلك التاريخ. وجاءت ثورات الربيع العربي قبل سنوات أيضا لتجدد شباب الديمقراطية في العالم. ولكن مآلاتها المخيبة شكلت بالنسبة إلى البعض، وبعكس ما كان ينتظر منها، نقطة انطلاق موجة جديدة تنحسر فيها الديمقراطية حول العالم، وتعود نزعات اليمين الرجعي بدرجاته المختلفة للصعود. هنالك رأي يربط فشل الربيع العربي تارة بسياسة “التدخل” الأجنبي، وأخرى بسياسة “عدم التدخل”. وبالمحصلة، يقول هذا الرأي إن فشل الربيع العربي يعود إلى الموقف السلبي للقوى الخارجية، والذي وصل ذروته اليوم مع صعود اليمين في أميركا وأوروبا إذ يعبر عن موقفه العدائي للثورات العربية بصراحة ومن دون مواربات. وعلى الضفة الأخرى نجد رأيا معاكسا يؤكد بأن فشل الثورات العربية وما أنتجته من تنظيمات متطرفة ولاجئين هو من تسبب بصعود اليمين وبانحسار الديمقراطية وقيمها. يجادل أصحاب هذا الري بأن اليمين لم يصعد حول العالم بهذه الصورة منذ موته مع النازية والفاشية وفرانكو، وما صعوده اليوم إلا صدى لأزماتنا. لا شك في وجود علاقة تأثير متبادل بين كل من فشل الربيع العربي، والتدخلات الخارجية، وانتشار اليمين، وانحسار الديمقراطية الليبرالية، غير أنه من الخطأ عدم إدراك درجة الاستقلالية في تلك العوامل التي تتمتع بديناميكية ذاتية. قد يسرَع صعود أحزاب اليمين من انحدار الاحتجاجات الشعبية العربية، ويساعد في تثبيت أنظمة “الاستقرار”، ولكنه ليس سبب أزماتها التي قادت إلى ضعفها ونهايتها. كما أن كلا من الديمقراطية الليبرالية واليمين يشتركان في تفضيل “الاستقرار”، وإن كان الأخير يجاهر بذلك علنا ويقول بصوت مرتفع “تبا لقيم الحرية والعدالة، نريد الاستقرار”. استفاد اليمين أيضا من موجة الإرهاب الداعشي ومن تدفق اللاجئين للقارة العجوز التي خرجت من الحرب العالمية الثانية مذعورة ولا تزال. ولكن لصعوده أسباب أخرى مرتبطة بالتحولات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية التي ضربت شرائح اجتماعية مختلفة تتشارك الإحباط والنقمة على تلك التحولات. فهنالك من يرفض التحولات الاقتصادية، وهنالك من هو سعيد بتلك التحولات لكنه رافض للتحولات الثقافية، وهنالك من يشعر بأنه تضرر من كل ما جرى وعلى جميع المستويات. لا تكمن أزمة الديمقراطية الليبرالية في صعود اليمين فحسب، بل باتضاح أن قيمها التي طالما فاخرت بها ليست راسخة في وعي وسلوك المجتمعات الغربية على النحو الذي كان يعتقد به. ولا نقصد بالديمقراطية الليبرالية مجرد تداول السلطة الذي لا يزال راسخا ولا يبدو أنه عرضة للتهديد. المقصود هو مجموعة القيم التي تكرست تحت تأثير أفكار وسياسات الديمقراطية الليبرالية التي أصبحت عالمية إلى حد ما وتعتبر من منجزات الحضارة الإنسانية: حقوق الإنسان التي فتحت الباب للقبول بحقوق اللاجئين والمهاجرين، لا بل سن قوانين معاملتهم بصورة تفضيلية كنوع من التأكيد على المساواة، حقوق الرعاية الاجتماعية والصحة والتعليم، عدم التدخل في شؤون الأفراد السياسية والاجتماعية والدينية، حقوق المرأة وتحصينها من كل ما يمسها حتى من التحرش اللفظي، حقوق الطفل ككائن مستقل عن العائلة، حقوق المثليين، وأمور كثيرة أخرى. كل ذلك يبدو اليوم مهددا لا من صعود اليمين فحسب، وإنما من جمهور غربي واسع يبدي عدم ارتياحه المطلق لتلك القيم التي كان ينظر إليها حتى وقت قريب كمسلمات. كاتب فلسطيني سوري سلام السعدي :: مقالات أخرى لـ سلام السعدي أزمة الديمقراطية الليبرالية, 2016/12/10 حلب والنظام العالمي الجديد, 2016/12/03 أميركا وإيران: تعاون أم مواجهة؟, 2016/11/26 ربيع اليمين المتطرف, 2016/11/19 مناعة النظام السياسي الأميركي أمام ترامب, 2016/11/12 أرشيف الكاتب

مشاركة :