الكتاب: الماء في سوْرته الكاتب: نشمي مهنا الناشر: مسعي للنشر والتوزيع في البحرين 2014 «نواخذة» الخليج في صراعهم الأبدي مع البحر، يؤنسون عالمه وأشياءه. هو روح كبيرة يتفرع منها عوالم صغيرة وكائنات حية كأسماكه تماماً. أساطيرهم هي جزء من وعيهم لظواهره الكارثية، وجزء أيضا من حياتهم اليومية. حيث بؤرة العاصفة هي عقدة الأسطورة، وذروة التصعيد الدرامي هي الطريقة التي تبين مهارة البحار في محاورته لـ»درياه» أبو البحر، كما يطلق عليه البحارة في الخليج العربي. فعلى متن «جالبوت» عتيق، يبحر الشاعر نشمي مهنا متنقلا بين ضفافه، يحمل بيده اليمنى صندوق جدته الخشبي «المبيّت» المليء بالأساطير والحكايات: (يلوذ طفل بحضن جدّته.. يخبئ بجيوبها خوفه اللذيذ. تفتح الجدة صندوقها «المبيّت»، تلمع هدايا عيدها الذهبي.. ومسبحة من عتيق)، وباليد اليسرى يعيد ضبط «اسطرلابه» على موجة العشق التائهه (لا شيء.. النهر لم يصل هنا بعد. والزمان علّق جغرافيته على مشجب مكانٍ بارد، لا قبل، لا بعد). يبحث عن (القرية التي في مساءاتها تتراشق الأشباح بالنيازك، ويترك الزَبدُ على عتباتها). تلك القرية التي من يعبر مزارعها ليلاً (عليه أن يسند «يأسه» على أقرب جذع نخلة)، يمضي ولا يبالي بخدع الجن وحيلها. يقصدها حتى يوقف إعصار «غونو» الذي اجتاح السواحل العمانية، وحاملاً ما يناسبه من تمائم سحرية؛ فها هو يشرح طقوسه: (قلبنا الساعة الرملية قبل أوانها، كي نضلّل مواعيده، ونسد فم الحوت بست زجاجات فارغة). الحوت الذي عندما يتململ من طول رقدته، يتحرك.. فيضطرب الثور الواقف على ظهره فيهتز كوكب الأرض بين قرنيه. عندها تجتاح الأعاصير المحيطات والخلجان؛ ذلك ما تفسره الأسطورة. للبحر جوف، وللسماء وجه، وكذلك اللبرق أعين (عندما يحتقن وجه السماء، تبرق أعين ذئابٍ شبقة؛ ترعد بصدر الغيم «آه»، و ينفرط العقد). مقاومة البحر كحفيد لبحارة متمرس، يواجه الشاعر نشمي مهنا البحر. يقاوم هدير أمواجه ويتغلب على مخاطره بعد استيعابه لقوانين الاشتباك. الحياة على اليابسة كمواجهة البحر تماماً؛ صراع وجودي يتطلب معايشة وجدانية للواقع. البحر هو الأصل بكائناته الخرافية، وما الأرض سوى انفصال قسري جرى في ظروف طارئة: (الجزُرُ.. بنات اليابسة المسبيات، في ملكوت البحر). لذلك يعي الشاعر طبيعة الحياة باعتبارها مخاطرة محسوبة: (مراكبهم الشراعية، عصافير شوارعنا الخلفية، تذرع أعين صباحاتنا وتظل.. ملبدة حناجرها بالخوف، تنتفض في صدورنا، ترقب الأفق. لن تصل الضفة الأخرى إلا.. بفصاحة الريح). ابن النوخذة العتيق، الذي حاور البحر بلغة «الموجة» بعد تقويمه للحن البوح في لغتها (الموجة.. حكاية ذات مغزى. لم تكد تصل الساحل، حتى تتبعها موجة أخرى. تُلعثم معناها..)، لذلك هو لا يخشى من الأساطير، يلاعب «الطنطل»، ذلك الوحش الخرافي الساخر والمشاغب، وكذلك لا يستطيع «بو درياه»، أو أبو البحر في التسلل ليلا إلى ظهر سفينته من أجل إغراقها، وإن تمثل له في لباس حوريات بحرية، لأنه يحسن التعامل مع الشطر الحقيقي الجميل من كائنات البحر الوديعة، كالنوارس مثلا، الذين يهمسون له ببعض أسرار البحر، وكيف ينبعث العشق من داخله: (أينما تلتقي شفة البحر، بشفة الساحل، تجدنا. نحن قُبلة.. هكذا قالت النوارس). ويفهم الجحود والتلون في طبائع البشر، لأن البحر قد حكى له يوما عن إحدى تجاربه مع نكران الجميل: (كعادته البحر، أقام في أحشائه وليمة لزائريه. آمنهم بقلب أصدافه الفضية، أطعمهم من نبضه، سقاهم كوثر أحلامه. وحده «القندس النهري» بعد أن نفض يده من المائدة؛ تجشأ وقال: ماؤك يا مولاي اُجاج..) الحنين للوطن التغرب شرط آخر للبحر، فبالرغم من قبوله به في أول الرحلة، لكنه وبعد الشهر التاسع نجد حنينه إلى الوطن وقد أيقظته مساءات أيام الجمع في اجتماع الأهل ولقاءات الأصدقاء (كنت وما زلت أكره النهايات، وساعات الغروب. مالي وقد اختلفت الأيام هنا؟ وبدلت مواقعها. مازالت تنقبض روحي في مساءات أيام الجمع). عند تتبع مفردة «البحر» في نصوص الشاعر نشمي مهنا، فهي تقودنا بشكل منطقي إلى وجهة نظر محددة؛ مفهوم الحياة باعتبارها تنازعا وصراعا من أجل العيش بسلام في ظروف تتسم بعدم التأكد والاطمئنان (البحر بشرط نسيان الزرقة، وإهمال اسم البحر)، هو إدراك للجوهر وليس تغييرا في الماهية. لذلك، نجده يستدعي الأسطورة في محاولة للتخفف من قسوة المشاعر وصرامة الواقع بشعرنته وتشذيب النتوءات الحادة في ملمسه، مثل «الثآليل» التي تطفح على كف اليد. فهي عقاب النجوم لمن يتجرأ على عدها، كما تروي الجدات (كيف يجيء النوم؟! كيف يجيء؟! وهناك فتاة شرقية تلم بخدْرها نجوم الليل، وتعد على أصابعها العشرة.. لا تخشى ثآليل النزوات). فبجانب الأسطورة، تأتي الأحلام في النصوص لارتباطهما بالمعنى ذاته. فالأسطورة، كما يقول عالم الأسطوريات جوزيف كامبل، هي حلم المجموع، أي الحلم العام لأفراد يتشاركون في ثقافة معينة. أما الحلم فهو خبرة شخصية لذلك الأساس العميق المظلم والذي يمثل دعامة حياتنا الواعية، هو الأسطورة الشخصية والخاصة بالفرد في مقابل العام (دخلت عصر الأمس حلماً نهارياً أخضر. كاد أن يؤتي ثماره لولا.. أعين المارة على أرصفة دهاليز اليقظةَ فاجأته.. طار سرب حمامات بيضاء). الحمام في رمزية الوداعة والألفة والحلم في اجتراع الواقع بمهدئات شعورية تعمل على مفارقة اللحظة وتجاوزها المهم والجدير بالعيش (أطلقي حماماتك في مساءاتنا، دعيها ترتطم بأحلامنا.. كأشواق الأعمى. البرك الساكنةُ لوحة. والمشهد تحت الشرفةِ لوحة. والناس، وضجيجُ الناس، وخطوات المشّائين، وجموع الساعين إلى حوائجهم تحت الشرفة لوحة.. ومشاعرهم سيارات مسرعة). توظيف الأسطورة أخيراً، فبالرغم من مهارة نشمي مهنا في توظيف الأسطورة وإجادته لفن الترميز في نصوصه، إلا أنه شديد الالتصاق بالحياة اليومية ويحتفي بالعادي فيها، فيرفعه إلى قيم إنسانية شديدة الشفافية كما في نصه «طقوس مطرية (تتمتم زوجة بيدها منشفة تراقب عتبة الدار. تشد فتاة بقبضتها ستائر غرفتها الرمادية، تمسح أنفاسها عن وجه النافذة. يقذف ولد مشاغب رسائله المبللة بحوش الجارة. يتقرفص عامل آسيوي في الشارع تحت مظلات البيوت. تختبئ زرازير حذرة بقرب السدرة. وحدي.. أخرج إلى الشارع، أنتزع من صدري جمرات، أنظمها بخيوط المطر). • كاتب وناقد سعودي
مشاركة :