دُفعة أخرى من الملايين، تدخل خزينة الأندية الأدبية. عشرة ملايين ريال لكل ناد. وهو مبلغ كبير جداً، وكفيل بقطع ذرائع كل من كان أو ما زال يشتكي من قلة الدعم المادي ويطالب بزيادته. خصوصاً أن هذه الهبة الملكية تأتي بعد فترة قصيرة من هِبة الملايين العشرة الأولى. وهو ما يعني أن كل الأندية بلا استثناء لديها ملاءة مالية تغطي نشاطها لسنوات. سواء على مستوى المحاضرات أو طباعة الكتب أو إقامة المهرجانات أو ترميم واستكمال بناء المنشآت التي تبرّع بها رجال الأعمال والمؤسسات. كل ذلك يحدث وأكثر، كما نستقبله من خلال الفعاليات المعلن عنها، وعبر تصريحات رؤساء الأندية. إلا أن ذلك يتم بشكل آلي تقليدي لا برنامج له ولا إبداع فيه. الأمر الذي لا يؤدي فقط إلى إهدار كل تلك الأموال في الهوامش، بل تدمير الحالة الثقافية. خصوصاً أن إدارات الأندية في مرحلة ما بعد الانتخابات، أبدت من السوء الإداري والطمع المادي ما يشوّه فكرة الثقافة. حيث انتشرت أخبار الاحتراب على المناصب، والاتهامات المتبادلة بتزوير الانتخابات، واختلاس المخصصات المالية، إلى آخر متوالية الفساد الثقافي والإداري. حتى الآن، لم يُساءل أحدٌ عن الكيفية والمناحي التي صُرفت فيها الملايين العشرة الأولى. ولا أظن أن أحداً سيُساءَل في الدفعة الملايينة الثانية. وسيستمر النشاط الثقافي على هذه الوتيرة من العبث والهباء لأن القائمين على الثقافة الآن لا يعرفون منها إلا هذا الجانب الأدائي. أي النشاط لمجرد النشاط دون أي رؤية إستراتيجية أو برنامج إبداعي واضح الملامح. وفي الوقت الذي سيبتلع فيه إداريو الأندية الملايين العشرة، سيعلنون رفضهم لتدخل الوزارة في آليات صرف هذه المخصصات المالية التي تعادل ميزانية وزارة الثقافة في دولة نامية. وسيثورون لمجرد تفكير الوزارة في العودة عن مبدأ الانتخابات إلى فكرة التعيين. حيث تنتهي الدورة الحالية خلال شهور. وكل ذلك بحجة واهية، متواطؤٌ عليها، عنوانها أن الأندية الأدبية تنظيمات أهلية مستقلة. ومن يتأمل النشاط الثقافي خلال السنوات الماضية، يلاحظ أنه لا يتناسب كماً وكيفاً مع حجم الدعم المادي الذي تقدمه الوزارة. لدرجة أن بعض جمعيات الثقافة والفنون، التي لا تتلقى إلا الفتات، تقوم بنشاطات تفوق على المستوى الإبداعي ما تؤديه معظم الأندية الأدبية. وبميزانيات متقشفة جداً تتفاعل مع المفهوم الأشمل والأحدث للثقافة. وهذا يعني أن الثقافة لا تعتمد فقط على الدعم المادي، بل على الذهنية التي تدير النشاط وترسم الخطط الإستراتيجية للثقافة كجزء من التنمية الشاملة. إن الملايين العشرة لم تُوهب للأندية الأدبية ليصعد شاعر على المنصة أو يُستضاف روائي أو ناقد. أو لإقامة ملتقى صوري دون مضامين. أو لطباعة كتب رديئة شكلاً ومضموناً. ولا ينبغي أن تكون مغنماً للعاملين عليها. بل هي هبة تجعل من الثقافة محلاً لإنتاج إنسان جديد. وعليه، أتمنى ألا تُترك هذه الميزانية الضخمة في متناول إدارات الأندية الأدبية دون رقابة مالية ودون تنسيق مع الوزارة على آليات ومناحي الصرف. لأن محاربة الفساد فكرة ثقافية في المقام الأول. بمعنى أن يقدم كل ناد خطته الثقافية المقنعة للوزارة، ويتم التنسيق معها على رؤى مشتركة. لا تمارس فيها الوزارة دور الرقيب، ولا تنفلت الإدارات في الصرف وتبديد المال دون رقابة أو محاسبة. ولأن معظم الأندية الأدبية، أثبتت خلال مراحلها السابقة فشلها في التخطيط الثقافي، وقدمت صورة مربكة للثقافة، أتمنى ألّا يستمر الحال على ما هو عليه. وأقترح أن تستعين الوزارة بخبراء من اليونسكو لتقديم تصور للتنمية الثقافية تكون الأندية الأدبية جزءاً منها. فنحن- كدولة- عضو في هذه المؤسسة الدولية التي تقدم استشارات للدول والمجتمعات الباحثة عن تنمية ثقافية موازية للتنمية الاقتصادية والاجتماعية. وإذا كان هناك بعض التحفظ على ما يمكن أن تقترحه هذه المنظمة من طروحات غير متوائمة مع الخصوصية الثقافية لمجتمعنا، يمكن الاستعانة بمن عملوا في هذه المؤسسة من السعوديين وامتلكوا من الخبرة ما يكفي لرسم خطة ثقافية فعالة. الأندية الأدبية ليست على تلك الدرجة من الاستقلالية، ولا ينبغي لها أن ترفض وجود الوزارة في نشاطها وبرامجها بحجة الاستقلال. وإذا كانت ستتقبل الهبة المالية فلتتقبل فكرة التشاور مع الوزارة على مرئيات ثقافية ذات معنى، لئلا تتكرر مشاهد اقتسام المصالح وتغييب الشأن الثقافي. وإذا أرادت الأندية الأدبية أن تثبت أنها وصلت إلى سن الرشد الثقافي بالفعل فلتقدم من النشاط والخطط ما يؤكد استحقاقها للملايين العشرة وأكثر. لأن الدعم الحكومي، وما تجود بها المؤسسات ورجال الأعمال ليس صدقة للعاملين على الثقافة، بل هو إسهام في صلب الفعل الثقافي. ناقد
مشاركة :