التشكيل العالمي: الستريت آرت بين مقاومة الليبرالية وتحدي المتحفية

  • 12/31/2018
  • 00:00
  • 1
  • 0
  • 0
news-picture

حفل المشهد التشكيلي الفرنسي في العام 2018 الذي يشهد نهايته بعد سويعات قليلة بالعديد من التجارب المميزة سواء في الفن المعاصر، أو في أساليب التعبير الفني المبتكرة التي لم تتشكل بعد ضمن تيار أو مدرسة، أو في الستريت آرت الذي اتخذه بعضهم وسيلة لمقاومة الليبرالية ومجتمع الاستهلاك، فيما توسل به آخرون لتحدي المتحفية والوصول إلى عامة الناس. فنون معاصرة في الفن المعاصر، تستوقفنا تجربة البريطاني دفيد هوكني الذي فتن بالتكنولوجيات الحديثة وبالإمكانات التي توفرها لخدمة الفن، إذ كان يقوم بعملية مونتاج للصور التي يلتقطها من زوايا مختلفة، ويعيد تركيبها ليعدد زوايا النظر على الطريقة التكعيبية، ثم انتقل إلى الرسم بالكمبيوتر والطابعة والـ”آي باد”، فساعدته على تخير ألوانه وأصباغه. وهو ما يلمسه الزائر في أعمال معروضة على شاشة كبيرة أنجزها بالـ”آي باد” وحده، وما هي في الواقع سوى مواصلة لما كان بدأه حينما عكف على استعمال الفيديو، إذ كان يعيد بناء المشهد نفسه في سائر الفصول بالتقاط صور عنه بواسطة ثماني عشرة كاميرا من زوايا مختلفة ثم يبث ذلك على شاشة ضخمة. أما عن تجربة الياباني تسوغوهارو فوجيتا، فقد تميزت بتقنية تشبه الرسم على العاج، حيث يحيط رسومه بالأسود مع ألوان شفافة متناثرة كبُرادة الحديد. ولم ينجذب فوجيتا إلى التيارات التي كانت رائجة في عصره، بل اكتفى من الفنون التشكيلية الغربية بفن التصوير، ونقل الأحجام، واتجاه الظلال التي تقولب الأشكال، ومرونة الخط، قبل أن يختط أسلوبه، كثمرة تنافذ بين ثقافتين، باريسية ويابانية.وكشف العام 2018 عن بعض الوجوه المنسية كالفرنسي جان فوتريي الذي تأثر بفظاعات الحرب، فرسم منذ العشرينات أناسا بسطاء ذوي ملامح كالحة، يعلوها البؤس والشقاء، في لوحات قاتمة تذكر بالفن الفلمندري في القرن السابع عشر، إذ كان حريصا على نقل أثر الحرب في حياة الناس. وكان فوتريي يركز في رسم بروتريهاته على ألوان الحِداد، وإن عُرف عنه عدم التزامه بمذهب، فهو ينهل من غويا، مثلما ينهل من رمبرانت ووليم تورنر، ولذلك وُصف بمبتكر الفن الفوضوي، بمعنى الفن الذي لا يخضع لشكل أو نظام أو قانون، إذ ينطلق من حدث واقعي، أو من وضعية ما، ويتصور أشكالا تجريدية، تاركا لنفسه حرية الارتجال والسير في سبل مجهولة دون سابق تخطيط. كذلك التشيكي فرانتيشيك كوبكا الذي كان شاهدا على تحولات فنية كثيرة، من الرمزية إلى البوب آرت، مرورا بالانطباعية والتكعيبية والسريالية والتجريدية، ولكنه كان حريصا على عدم التقيد بمدرسة من تلك المدارس الفنية الكبرى، تلك التي كان يسميها إيزم « ismes»، وقد ظل يرفض تسميته بالفنان التجريدي رغم أنه أحد رواد التجريدية إلى جانب فاسّيلي كادينسكي، وجينو سيفريني، وبييت موندريان، وكازيمير ماليفيتش، وأوغست هربان، وروبير دولوني، قائلا في استنكار “لوحاتي تجريدية؟ لماذا؟ الفن التشكيلي فن ملموس: لون، أشكال، دينامكية. الابتكار هو المهم، ينبغي أن نبتكر ثم نبني”. ومثله الصيني زاو ووكي الذي عدّه النقاد فنانا عالميا، ولكن فرص تناول أعماله بالنقد لإبراز تنوعها وتمازج عناصرها وتنافذ لقاحاتها لا تزال نادرة في الساحة الفرنسية. ورغم اعتناقه الجنسية الفرنسية عام 1964، وتأثره بالتيارات الغربية، ظل وفيا لتربته الأولى، يستقي منها مناظرها (ولو أنه لا يحب لفظة “منظر” ويفضل عليها عبارة “طبيعة”)، يتبدى ذلك في لوحاته الضخمة التي تحيل على الفن الصيني، وليس غريبا أن أغلب لوحاته أفقية، مثل مناظر طبيعية، وكأنه لا يرسم صورا مستوحاة من منظر طبيعي، بل طريقا ينفذ إلى قلب الطبيعة. أما من المجددين، فقد توقفنا في العام 2018 عند تجربة الفرنسي جواكيم رومان الذي يقوم عمله على تحويل ما نعرفه إلى شيء جديد بعد إخضاعه لرسكلة فنية ذات رؤية مخصوصة، فالفكرة الثابتة في كل أعماله تحوم حول البلى، فهو وإن كان مثل بائع الأنتيكا الذي ينبهر بمرور الزمن على الأثر الفني، يعجّل عامل البلى ويخرج لوحاته مخرجا فنيا. وخير مثال على ذلك أعماله على الصدأ، ولو أن قاعدة فنه الأساس هي البورتريه المشروط بآلة حادة، وفي رأيه أن في آثار الزمن نوعا من الإجلال، فلئن كان البلى في مجتمع الاستهلاك المفرط صنوا للتدمير والنفاية، إلاّ أنه يمكن أن يكون له وجه آخر في نظر الفنان، فهو يعتقد أن للهرم عدة درجات، ومن ثَمّ يحرص دائما، مثل مرمّم الآثار الفنية القديمة، على تحويل فائدة الأداة بجعلها أثرا فنيا يمكن تأمله. كذلك الكندي بنجامين فون وونغ الذي حاز شهرته بفضل إخراجه البديع للصور الشمسية التي ينجزها، إخراج يقوم على أسلوب فني بالغ الواقعية، يمزج فيه بين صور واقعية وخدع فنية. وكان لمعرفته بالهندسة ما مكنه من حل مشاكل الريتوش بيسر، وجعل كل صورة تروي حكايتين: حكاية موجودة في الصورة، وأخرى موجودة وراء ابتكارها. وقد اعتاد أن يبين لهواة فنه كيف يحصل على أفضل النتائج باستعمال المؤثرات الخاصة، ويضيف نوعا من الضبابية على صوره، ويتحكم في الريتوش ليحوّر أو يتمّم الصورة برذاذ من الحبر الأسود في الفوتوشوب، فالغاية بالنسبة إليه هي تحسيس أكبر قدر ممكن من المدافعين عن البيئة، كما فعل في عمله الذي يحذر فيه من الفضلات الإلكترونية التي لا تخضع لإعادة تدوير.

مشاركة :