من الفنانين الكبار الذين تركوا بصمة في حركة التجديد إبان القرن العشرين الفرنسي، الألماني الأصل، هانس هارتونغ (1904-1989)، وقد خصه متحف الفن الحديث بمدينة باريس بمعرض يتواصل حتى مطلع مارس المقبل، اختار له ثلاث مئة عمل فني من جملة خمسة عشر ألفا أنجزها هارتونغ طيلة حياته، منذ مطلع العشرينات إلى أواخر السبعينات. ولد هارتونغ في ليبزيغ، وكان مولعا منذ صغره بعلم الفلك والتصوير الشمسي حتى أنه صنع منظارا خاصا لملاحظة أجزاء من الواقع الذي سوف يقارب من بَعد مظهره التجريدي. التحق بمعهد درسدن عام 1924 وولع برامبرانت، وغويا، وفرانس هالس ولوغريكو، ثم بالتعبيريين الألمان وفي مقدمتهم أوسكار كوكوشكا وإميل نولده، وكان ينسخ أعمالهما على طريقته بتبسيط تشكيلها والاحتفاظ منها بكتل ملونة. وكانت تلك بداية اقتحامه تجربة التجريد، التي أفرزت أعمالا كثيرة لم تعرض إلا بعد نهاية الحرب العالمية الثانية. وكان قبلها قد انضم إلى أكاديمية الفنون الجميلة بدرسدن، حيث اكتشف الفن الفرنسي، من الانطباعية إلى التكعيبية، وزار في الأثناء العديد من المدن الأوروبية قبل أن يستقرّ في باريس، ويشرع في ارتياد أروقة الفنون الشهيرة، والسفر إلى بعض البلدان المجاورة كبلجيكا وهولندا، حيث تعرف على الفنانة النرويجية أنّا إيفا برغمان التي ستكون شريكة حياته، ويعتلي اسمها المؤسّسة التي سوف يضع هندستها هارتونغ في مدينة أنتيب جنوبي فرنسا. في أواسط الثلاثينات، زار ألمانيا في أوج صعود النازية، فأوقف وسجن، وما كاد يستعيد حريته حتى تسلّل إلى فرنسا، وتجنّس بجنسيتها، وانخرط في المقاومة. وكان قد تعرّف قبل الالتحاق بجبهة القتال بكادينسكي، وموندريان، وألبرتو مانييلي، وسيزار دويلا، وميرو وكالدر. وقد اتسمت تلك الأعوام بتطوير منهجيته التي وصفها بالعفوية المدروسة. كان هارتونغ دائم البحث والتجريب، ورائد ثورة فنية حرّرت الحركة، يسكنه هاجس التحرّر من كل قيد. ومنذ صعود الفاشية في بلاده ألمانيا إلى وضعه البائس في فرنسا ما بعد الحرب، ما انفك يطوّر تجربته مدفوعا برغبة الانعتاق والتحرّر، ولم تفلح الحرب ولا البؤس ولا الإعاقة في كبت هوسه بالفن. هانس هارتونغ وضع التجريب في صميم عمله ليتمثل حداثة بلا حدود، حيث تتجلى تجارب على اللون والحجم كمنهج صارم لم يتخل عن أقلامه وفرشه حتى في جبهة القتال، إذ كان لا يتوقّف عن رسم وجوه مؤثرة، في لوحات تذكر بأبطال غيرنيكا لبيكاسو. وجوها يسكنها الرعب، بعيون جاحظة وأفواه فاغرة، رسمها عام 1940 عندما سقطت باريس في قبضة النازيين. وظل على تلك الحال حتى أصيب بشظية عام 1944 في حملة تحرير مقاطعة الألزاس، فاضطر إلى بتر رجله اليمنى، ولكن تلك الإعاقة لم تمنعه من مواصلة الرسم، إذ ابتكر طرقا تعتمد على الحركة، استفاد منها من بعده الأميركي جاكسون بولوك في ما سمّاه لوحة العمل التي تعبّر عن عفوية الفنان واندفاعه، وتتميّز بحركات خطوطية، متسعة وسريعة ومتوترة. وقد اعتاد أن يستعمل مسدس سمكري السيارات، ومرش طلاء كبريت، ومكنسة بأغصان رتم منقوعة في الدهن يرشّ بها القماشة، وشفاطة مقلوبة، وبخّاخة، وبكرة كتلك التي تستعمل في حضائر البناء للتسطير والحك والكشط، أي أنه سبق الستريت آرت بأعوام، محدثا ثورة في عالم الفن، مبتكرا تجريدية جديدة دون خلفية رمزية أو جمالية. ولا يعني ذلك أنه مزخرف أو شكلاني، بل هو عاشق للمادة وملتحم بها. في لوحاته مباعدة حقيقية تدفع المشاهد إلى التطلع إليها بالمراوحة بين الاقتراب منها حينا والابتعاد عنها حينا آخر، بحسب اختلاف أحجامها. ويضم المعرض الباريسي نحو ثلاث مئة عمل فني تعكس ثراء الابتكارات التقنية وتعدّد الوسائل التي استعملها هارتونغ طيلة ستة عقود، فقد وضع التجريب في صميم عمله ليتمثل حداثة بلا حدود، حيث تتجلى تجارب على اللون والحجم كمنهج صارم، كذلك التأطير والتصوير الشمسي والتكبير والتكرار وحتى استنساخ عدد من الأصول التي أنتجها ليفتح الباب على نسق حداثي سار عليه من بعده عدة فنانين أبرزهم الفرنسي بيير سولاج. وقد بني المعرض على متتالية لقطات كرونولوجية في أربعة أقسام أساسية، تتألف من اللوحات الزيتية وحدها، ومن صور شمسية تشهد على هذه الممارسة التي رافقت بحثه الفني. وتبرز من بينها أعمال خطوطية، وطبعات مصوّرة، وتجارب على الخزف، ومنتخبات من الحصى الأملس مطلية بشتى الألوان. كما يقترح المعرض جملة من الوثائق تضم أرشيفا، كتبا، مراسلات، دفاتر، رسوما تخطيطية، يوميات، كتالوجات، لافتات، صوار، وأفلاما وثائقية تنزّل الفنان في علاقته بعصره وموقعه من تاريخ الفن الحديث. لقد عاش هارتونغ وفيا للفن وحده، يمارس حريته بامتلاء، وقد عبّر عن ذلك في قوله، “أريد أن أظل حرّا، من جهة العقل والفكر والفعل. ولا أدع نفسي حبيسا لا من طرف الآخرين، ولا من طرف ذاتي”.
مشاركة :