في هذه الأيام المباركات ينعم المولى جل وعلا على مملكة البحرين بنعمة المطر، وقد لاحظت أن بعض الكتابات تحذر من استخدام لفظ (مطر) وتفضل استخدام لفظ (الغيث) وذلك لأن لفظ (المطر) قد جاء في معظم مواضع القرآن الكريم بمعنى العذاب، كما جاء في قوله تعالى: (ولقد أتوا على القرية التي أمطرت مطر السوء) (الفرقان 40)، وفي قوله تعالى: (وأمطرنا عليهم حجارة من سجيل منضود) (هود 82). ولكن إذا نظرنا نظرة كلية إلى مجمل اللفظ كما جاء في القرآن الكريم وفي السنة النبوية المطهرة نجد أن للمطر معنيين، فقد يكون نعمة، ينعم المولى جل وعلا بها على المؤمنين الموحدين، أو نقمة على الكافرين والمنافقين والفاسدين، وحجتي في ذلك الآيات القرآنية الكريمة، والأحاديث النبوية الشريفة، قال تعالى: (وجعلنا فيها رواسي شامخات وأسقيناكم ماء فراتا) (المرسلات 27). (وأنزلنا من السماء ماء طهورا) (الفرقان 48). (ونزلنا من السماء ماء مباركا) (ق 9). (وهو الذي أنزل من السماء ماء لكم منه شراب ومنه شجر فيه تسيمون) (النحل 10) وجاء في الصحيحين وغيرهما: عن عبدالله بن عمر رضي الله عنه قال قال صلى الله عليه وسلم: (مفاتيحُ الغيبِ خمسٌ، لا يعلمُها إلا اللهُ: لا يعلمُ ما تَغيضُ الأرحامُ إلا اللهُ، ولا يعلمُ ما في غدٍ إلا اللهُ، ولا يعلمُ متى يأتي المطرُ أحدٌ إلا اللهُ، ولا تدري نفسٌ بأي أرضٍ تموتُ إلا اللهُ، ولا يعلمُ متى تقومُ الساعةُ إلا اللهُ) (صحيح البخاري). (وعن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها أنَّ رسول اللهِ صلى الله عليه وسلم كان إذا رأى المطرَ قال: صيِّبًا نافعًا) (صحيح البخاري). (وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال أصابنا ونحن مع رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ مطرٌ. قال: فحسَر رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ ثوبَه حتى أصابه من المطرِ. فقلنا: يا رسول اللهِ، لم صنعت هذا؟ قال: لأنه حديثُ عهدٍ بربِّه تعالى). (صحيح مسلم). وقوله صلى الله عليه وسلم: (اثنتان ما تردان: الدعاء عند النداء، وتحت المطر) رواه الطبراني في المعجم الكبير. (وعن مَكْحُولٍ عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (اطلبوا إجابة الدعاء عند التقاء الجيوش وإقامة الصلاة ونزول المطر) أخرجه الشافعي في (الأم) والبيهقي في (المعرفة). هذه مقدمة لا بد منها لإنهاء اللغط حول لفظ (المطر)، وأعتقد أن مشكلة (المطر) ليست في معنى اللفظ الذي حسمته آيات القرآن الكريم وسنة نبينا صلى الله عليه وسلم المطهرة، بقدر ما هي في أسلوب تناول المقررات الدراسية له فيما يسمى الدورة المائية (Water Cycle)، فقد تناولت المقررات الدراسية هذا الموضوع في جميع دولنا العربية بطريقة سطحية للغاية عندما أوردت أن الماء يتبخر من البحار والمحيطات، ويتجمع بخار الماء في طبقات الجو العليا مكونا السحب، وعندما تتعرض هذه السحب لهبات الرياح التي تحركها إلى أماكن ذات درجات حرارة منخفضة، فيتكثف بخار الماء الذي يوجد في هذه السحب وينزل مطرا يستفيد منه الإنسان والحيوان والنبات، وتتشكل الأنهار والبحيرات العذبة التي تنتشر حولها الجماعات البشرية، حيث يحدث الاستقرار ومن ثم تنشأ الحضارات حول أودية الأنهار، كما في أودية النيل والرافدين وبقية أنهار العالم. ولكن لم توضح هذه المقررات نوعية ماء البحار والمحيطات الذي تحول إلى بخار ماء، هل الماء المتبخر من هذه البحار يحمل أملاح البحر الضارة بالإنسان والحيوان والنبات، أم يحمل ماء مقطرا خاليا من الأملاح؟ وهل الماء المقطر صالح لاستخدام الكائنات الحية؟ لم تجب المقررات الدراسية على هذه التساؤلات التي يمكن أن يسألها بعض الطلاب الأذكياء. ومعروف أن مياه البحار والمحيطات لا تصلح لاستخدام الكائنات الحية لاحتوائها على نسب عالية من الأملاح المعدنية التي أوجدها الخالق جل وعلا لتعمل على تنقية مياه البحار والمحيطات من القاذورات وبقايا الكائنات الحية المتعفنة في البحار. فكيف تحول ماء البحار والمحيطات غير الصالح لاستخدام الكائنات الحية، إلى ماء صالح لاستخدام البشر والحيوان والنبات، والذي وصف في الآيات القرآنية الكريمة بأنه ماء فرات (أي عذب وطهور ومبارك). هذا ما تتجاهله المقررات الدراسية التي نقوم بتدريسها لأبنائنا بطريقة تنقصها الدقة في المعلومة المعطاة. وهنا يتجلى إعجاز القرآن الكريم العلمي في الآية الكريمة التالية: قال تعالى: (أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أم نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا فَلَوْلا تَشْكُرُونَ) (الواقعة: 68-70)، وقد جاء في معظم التفاسير أن (الأجاج) من الماء هو ما اشتدت ملوحته، ولو شاء الله سبحانه وتعالى لجعل هذا الماء مالحا فلا تنتفعون به في شرب ولا غرس ولا زرع، فهلا تشكرون ربكم على ما أعطاكم من هذه النعم. وهو تفسير صحيح ويؤدى الغرض المطلوب من الآية الكريمة. ولكن علم الفيزياء الحديث يقدم عمقا جديدا لتفسير هذه الآية الكريمة، ما يؤكد أهمية الغوص في مكامن العلوم لفهم الآيات القرآنية الكريمة على نحو أعمق وأكثر دلالة على المعنى، لأن الذي أوجد القرآن الكريم هو نفسه الذي خلق المطر والسحب والبحار والمحيطات والأنهار، وألهم الإنسان العلم وإعمال الفكر. ودعونا نستعرض آيتين كريمتين أخريين لتكتمل الصورة مع الآية الكريمة السابقة، قال تعالى: (ألَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشَاءُ يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالأَبْصَارِ) (النور 43). (هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنْشِئُ السَّحَابَ الثِّقَالَ) (الرعد 12) وتبين الآيتان الكريمتان أن نزول المطر يصحبه اضطراب جوي عظيم، وتفريغ كهربي ينشأ عنه برق ورعد، ويكون السحاب متراكما كالجبال، كما أن إضاءة البرق تكون شديدة تكاد تذهب بالأبصار، ونجد عند التمعن في الآيات الثلاث تطابقا مذهلا بما جاء في علم الفيزياء الحديث، فمن المعروف أن الله سبحانه وتعالى قد وضع شحنات كهربية سالبة وشحنات كهربية موجبة في السحب، وعند اصطدام هذه السحب ببعضها تحدث الشرارة الكهربية التي ينتج عنها البرق، ويترتب على ذلك حرق كميات معينة من الهواء، ومعروف أيضا أن أربعة أخماس حجم الهواء تتكون من غاز النيتروجين وخمس حجمه من الأكسجين، ومن خواص هذين الغازين أنهما يتحدان عند حدوث الشرارة الكهربية نتيجة البرق، ليكونا غازين هما خامس أكسيد النيتروجين الذي يتحد مع الماء مكونا حمض النيتريك، وثالث أكسيد النيتروجين الذي يتحد مع الماء مكونا حمض النيتروز، وإضافة قليل جدا من هذين الحمضين (فيما يسمى تجاريا النترات) ضرورية لتحويل الماء المقطر الذي تبخر من البحار المالحة إلى ماء عذب صالح لاستخدام الإنسان والحيوان والنبات، فلو أن البرق تكرر وزاد عن حده، وتسبب في حرق كمية أكبر من النيتروجين لزادت كمية الأحماض المضافة إلى ماء المطر، وأصبح مالحا أجاجا أي مالحا ومرا لا يصلح لاستخدام الكائنات الحية، ولهذا فإن حدوث البرق وكميته وزمنه يتناسب (تناسبا إلهيا دقيقا جدا) مع حجم كمية بخار الماء الذي يتوقع تحوله إلى مطر، ومن هنا يأتي المن الإلهي على البشر في قوله تعالى: (أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أم نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا فَلَوْلا تَشْكُرُونَ) (الواقعة: 68-70).
مشاركة :