تتناول رواية «أصابع لوليتا» لواسيني الأعرج قضية شائكة، لا يزال العرب يعانون منها بالرغم أنها قد بدأت منذ خمسين عاما. إنها قضية الإرهاب التي عانت منها الدول العربية جميعا بما فيها الجزائر بلد الكاتب. تنهض بأحداث الرواية شخصية رئيسة كانت ابن أحد شهداء معارك التحرير، ثم عانت من بعض الفئات الفاسدة الانقلابية في المجتمع، وأصبحت بعد ذلك هدفا للإرهابيين، والمتطرفين. والرواية في خطها الأكبر للحدث تقص الحكاية التي امتلأت بها كثير من النصوص العربية، وطرحت بصور مختلفة، تلك النصوص التي تتناول مرحلة الاستعمار وما أعقبها من أحداث. ذلك أنها تطرح إشكالية - لا أدري مدى صلتها بالواقع- عن مصير الجهود التي بذلتها أجيال متعددة في مقارعة الاستعمار، ومصير أولئك الذين قاموا بتلك الجهود، وهي بلا مواربة تتشابه في قولها إن الأجيال التي تمكنت من السلطة بعد الاستقلال لا صلة لها بالنضال زمن الاستعمار، وفي رواية «واسيني الأعرج» عرض مفصل للمعاناة التي مرت بها إحدى أسر شهداء حرب الاستقلال فصاحب زعيم قادة الاستقلال، ورفيق دربه، يسقط في القتال، ويدفن في مكان غير معلوم في الجبهة التي سقط فيها، ثم ينكل بأصدقائه، واحدا..واحدا.. ويلقى القبض على ابنه بتهمة معاداته للاستقلال، وحين تسأل عنه أمه لا تلقى جوابا، فيصيبها الجنون، ثم تموت بدورها. في حين يلقى الزعيم الذي كانت الجماهير تلتف حوله في حربها مع الغازي المحتل المصير عينه، إذ يزج به في السجن، ثم يرحل إلى المنفى الذي يقضي به ما تبقى من عمره. وتضيف بعد ذلك الرواية الأحداث الأخيرة، أي مرحلة الاستقلال، فإذا كانت قد أشارت من طرف خفي إلى طبيعة الفئة الحاكمة في البلاد، فإنها لم تشر بعناية كبيرة إلى التحولات المفصلية التي جعلت الإرهاب يسيطر على البلاد، ولا عن أسبابه. ذلك أنها تنقلت بين حياة الشخصية الرئيسة في الجزائر قبل سفره إلى أوربا متخفيا بأوراق مزورة، ثم في حياته في أوربا بوصفه كاتبا مرموقا تهتم لشأنه دور النشر، وتقام له مهرجانات التوقيع، وتحدد مواعيد اللقاء به في كل بلد أوربي، كما يخصص لحراسته فرقة خاصة من الدولة التي يقيم فيها، وهي في الرواية فرنسا. وعلى هذا فالرواية تتخذ عددا من المفارقات وسيلة تبني بها تركيبة الحدث، والمواصفات الشخصية، وأول هذه المفارقات التي أشرت إليها في صدر المقال حيث إن مصير المناضلين، هو السجن، والنفي في حين أن مآل البلد بعد الاستقلال كان مغايرا لما كان يسير فيه قبله. والمفارقة الثانية هي أن هؤلاء الذين كانوا يحاربون المستعمر الفرنسي، وسجنوا، وعذبوا من زملاء النضال -على أحسن تقدير- لم يجدوا لهم صدرا يلتجئون إليه سوى عدو الأمس (فرنسا) التي تحولت إلى الأم الرؤوم لهم بعد أن تنكر لهم القريب قبل البعيد، بل لم يتوقف الأمر عند هذا الحد، فقد أصبحت هذه الدولة ترعاهم خير ما يكون الرعاية، فتنفق الأموال للحفاظ على سلامتهم، وتمكنهم من الاستفادة مما يملكون من ملكات إبداعية، فيصبحون كتّاباً مشاهير، ينعكس على حياتهم الاجتماعية. في ظل هذه الحال، تجعل الرواية الخطر الذي يهدد الشخصية الرئيسة في النص، ليس من الداخل الفرنسي، كاليمين المتطرف المعادي للأجانب مثلا، الذين يرون فيهم تهديدا لهوية فرنسا، ونقائها العرقي، أو ثقافتها الدينية، أو الذين يرون فيهم تهديدا لأرزاقهم، ويعدونهم سببا في البطالة بين أبناء البلد الأصليين، أو يرونهم مصدرا للجريمة، وانتشار المخدرات. ولكن هذا الخطر الذي يهدده، هو من بلده الأصلي، الذي نفاه عنه، وحرمه من العيش فيه، والبقاء بين أهله، وأصحابه، ومن الكتابة بلغته، والإحساس بمشاكله. هذا البلد لم يكتف بما فعله به، بل نفس عليه ما وجده في الغربة بالرغم مما فيها من معاناة، وسعى لأن يسلبه هذه الحياة التي يرى أنه لا يستحقها. هذا الخطر جاء عن طريق الجماعات الإسلامية المتطرفة التي رأت فيه خطرا يهدد ثوابتها، وكيانها، بما يصدره من كتب، وروايات، ويطرحه من أفكار تعبر عن رجل حرم من وطنه، ويعيش في المهجر. وقد جاء هذا الإحساس في بداية الرواية من الموظفة التي كلفتها دار النشر الألمانية بترجمة أعماله من الفرنسية إلى الألمانية حين أوصته بأن يتنبه، فالخطر يأتيه من حيث لا يتوقعه، وهو ما سنكمل الحديث عنه في المقالة القادمة.
مشاركة :