أصبحت التكنولوجيا المالية هاجسا كبيرا يواجه المؤسسات المالية والمصرفية في مختلف دول العالم، وعنصرا مهمًّا من عناصر البيئة التنافسية التي تواجهها، وحيث إن البنوك المركزية هي المؤسسات التي تقف على قمة النظام المالي والمصرفي، لذا فإنها معنية بالتكنولوجيا المالية وآثارها على المؤسسات المالية والمصرفية في بلدانها قبل غيرها من المؤسسات المالية والمصرفية الأخرى، وحتى نوضح دورها في عصر التكنولوجيا المالية، سنتطرق بدءا في مقالنا إلى تعريف البنوك المركزية ونشأتها ثم الإشارة إلى أبرز وظائفها، حيث يعرف البنك المركزي بأنه البنك الذي يحتل الموقع القيادي في سوق النقد ويمثل السلطة العليا لمجمل النظام النقدي والمصرفي في أي دولة من دول العالم، وهو المستشار المالي والاقتصادي للحكومة في مجال صياغة السياسات النقدية والمالية والاقتصادية وآلية تنفيذها، يتمتع بشخصية اعتبارية مستقلة، ويستمد وجوده كمؤسسة عامة، وينفذ أحكامه ويمارس سلطاته وفقا لأحكام القانون، ويهدف أساسا إلى خدمة الصالح الاقتصادي العام، من خلال الحفاظ على الاستقرار النقدي والاقتصادي. وتعد البنوك المركزية حديثة النشأة، حيث نشأت في بادئ الأمر كبنوك تجارية، ثم أضافت حكومات الدول إليها وظائف البنوك المركزية، وخاصة إصدار العملة، لذا سميت في حينها ببنوك الإصدار، ولا تزال هذه التسمية هي السائدة في بعض الدول كفرنسا. ويعد بنك السويد الذي تأسس عام 1665م أقدم البنوك المركزية من حيث النشأة، غير أن بنك إنجلترا الذي أنشئ عام 1692م يعد أول بنك إصدار وضع الأسس والقواعد التي تميز البنوك المركزية عن غيرها من البنوك. ويطلق على البنك المركزي أسماء مختلفة ففي الولايات المتحدة الأمريكية يسمى «نظام الاحتياطي الفيدراليFederal Reserve System»، وفي جمهورية الهند يسمى «البنك الفيدرالي»، وفي المملكة العربية السعودية «مؤسسة النقد العربي السعودي»، وعلى الرغم من اختلاف مسميات البنوك المركزية، فإن وظائفها متشابهة إن لم تكن متطابقة، حيث تعنى بتنظيم السياسة النقدية واستقرار ومراقبة النظام المصرفي والاحتفاظ باحتياطيات البنوك التجارية، وإصدار العملة الوطنية والحفاظ على استقرار قيمتها، وإدارة الدين العام، وعقد اتفاقيات القروض مع المؤسسات المالية الدولية والحكومات الأجنبية، وإدارة والاحتفاظ باحتياطيات الدولة من الذهب والفضة والعملات المختلفة، وصولا إلى تحقيق والمحافظة على الاستقرار الاقتصادي الكلي، وتهيئة البيئة الجاذبة للاستثمارات، وإطلاق المبادرات الداعمة للقطاعات التنموية المختلفة، ومن ثم زيادة النشاط الاقتصادي وتحقيق التنمية الاقتصادية المستدامة التي لا تتم إلا بوجود استقرار نقدي ينسجم مع السياسات الاقتصادية الكلية التي تؤثر على مجمل النشاط الاقتصادي في الدولة. أما التكنولوجيا المالية فيقصد بها جميع التجديدات التكنولوجية في القطاع المالي والمصرفي، بما في ذلك التجديدات في مجال محو الأمية المالية والتعليم المصرفي، والخدمات المصرفية للأفراد، والشركات والاستثمار، وحتى العملات الافتراضية مثل البيت كوين، وغيرها من تطبيقات الدفع النقدي، وتمتد إلى برامج وتطبيقات معقدة مثل الذكاء الصناعي والبيانات الكبيرة الـ(big data)؛أي أنها بشكل عام أي اختراع تكنولوجي يتم توظيفه في الخدمات المالية والمصرفية. وأغلب خدمات التكنولوجيا المالية تقدمها شركات ناشئة في مجالات خدمات دفع الفواتير، وحلول الدفع عبر الانترنت والأجهزة المحمولة ، بالإضافة إلى المحافظ الإلكترونية. تنبع أهمية التكنولوجيا المالية من أنها تسهم في تجاوز أساليب التمويل القديمة وتعقيداتها الإدارية. وقد مثل ظهور التكنولوجيا المالية منعطفا جديدا للنظم المالية والمصرفية في العالم، ولا يرتبط تأثير التكنولوجيا المالية بالبنوك التجارية والمؤسسات المالية فقط، بل يمتد إلى الجوانب التشريعية والرقابية التي هي من صلب اختصاص البنوك المركزية. وحيث إن البنوك المركزية تؤثر على أسعار الأصول عن طريق وسطاء السوق الأولية، أو البنوك الكبيرة، التي تقدم لها السيولة بأسعار ثابتة أو ما يسمى بعمليات السوق المفتوحة، وعليه ستضطر البنوك المركزية إلى زيادة عدد الأطراف المقابلة في عملياتها في السوق المفتوحة، هذا سيكون له انعكاسات تنظيمية ورقابية، فزيادة الأطراف المقابلة يعني دخول عدد أكبر من البنوك تحت المظلة التنظيمية والرقابية للبنك المركزي. كما سوف تفرض تلك الانعكاسات تحسين تنظيم ما يسمى بصيرفة الظل (مجموعة الوسطاء الماليين غير المصرفيين الذين يقدمون خدمات مماثلة للمصارف)، ومن ثم فإن مهام البنوك المركزية ستتوسع، وستحتاج إلى مزيد من الاستقلالية -على الأقل في وضع السياسة النقدية- ما يفرض تواصلا أكثر وضوحا بين مختلف شركاء النظام المصرفي. ومن الممكن أن يقود ذلك أيضا إلى إحداث تحول في الممارسات التنظيمية، فالأجهزة التنظيمية تركز في العادة على الإشراف على كيانات محددة بدقة. ولكن مع دخول مقدمي الخدمات الجديدة (شركات التكنولوجيا المالية) بصور وأشكال جديدة، قد لا يكون من السهل إدراجها ضمن الفئات أو التصنيفات القائمة، الأمر الذي يتطلب استحداث تصنيفات جديدة. وقد أدركت البنوك المركزية التأثيرات البالغة الأهمية المتوقعة لتطور التكنولوجيا المالية على البنوك والنظم المصرفية في بلدانها، وسعت إلى التأكيد عليها لإيجاد منظومة وسائل جديدة لتلبية احتياجات زبائنها المتمرسين في التكنولوجيا، ولا سيما في مجال برامج الموبايل، ومستحدثات أجهزة الكمبيوتر، في عصر التنقل الفائق الاتصال وقوة الحوسبة الهائلة، وإلا فإنها معرضة لفقدان زبائنها، حيث تشتد المنافسة مع المؤسسات المالية غير المصرفية، والمصارف ذات اليد الطولى بمجال التكنولوجيا المالية، فكيف واجه مصرف البحرين المركزي تحديات التكنولوجيا المالية؟ هذا ما سنتناوله في مقال قادم.
مشاركة :