منذ تنامي دور شركات التكنولوجيا المالية الناشئة في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين شهدت دول العالم تسابقا ملحوظا في دعم واعتماد وتوطين الاستثمارات في التكنولوجيا المالية وتأهيل قطاعاتها المصرفية لمواكبتها والاستفادة من فرصها ومواجهة تحدياتها. حتى بلغ إجمالي الاستثمار في التكنولوجيا المالية أواخر عام 2020 نحو (36) مليار دولار أمريكي على الرغم من ظروف وتداعيات جائحة كورونا على مجمل الاستثمار العالمي. وقد كان التنوّع الجغرافي لرؤوس الأموال المموِّلة لاستثمارات التكنولوجيا المالية دورا أساسيا في تعزيز ذلك، فضلا عن دعم واحتضان حكومات دول العالم وبنوكها المركزية للتكنولوجيا المالية. وتحتل الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا والصين المراكز الأولى عالميا في حجم الاستثمارات في التكنولوجيا المالية. الولايات المتحدة وحدها مثلت نسبة 51% من حجم الاستثمار العالمي لعام 2019. كما أن أكبر حجم من الاستثمارات في البنوك الرقمية في الربع الأول من عام 2021 تم فيها، وفقا لما أشار إليه تقرير الاستثمار المصرفي الرقمي العالمي للربع الأول من عام 2021 الصادر من شركة تشالنجر إنسايدر. ويرتكز نمو استثمارات التكنولوجيا المالية فيها على البنية التحتية عالية الجودة، ووفرة المواهب ورؤوس الأموال، بينما كان العامل الأكثر تأثيرا في بريطانيا يتمثل بدعم الحكومة والهيئات التنظيمية ذات الصلة لشركات التكنولوجيا المالية. ففي عام 2014 أطلقت هيئة مراقبة السلوكيات المالية في المملكة المتحدة مشروع (ابتكار Innovate Project) الذي يتضمن مركزا للابتكار ومختبرا تنظيميا. كما فرضت الحكومة على البنوك أن توجه المؤسسات الصغيرة إلى مؤسسات تقديم التمويل البديل (شركات التكنولوجيا المالية) إذا لم تكن البنوك قادرة على تلبية احتياجات هذه المؤسسات من التمويل. ومما ينبغي الإشارة إليه أن بريطانيا تحتل المركز الأول عالميا في مجال استقطاب شركات التكنولوجيا المالية الإسلامية، وأن ذلك ينسجم تماما مع إعلان الحكومة البريطانية الصادر في الحادي عشر من مارس 2013 بتشكيل أول فريق عمل معني بالتمويل الإسلامي يهدف إلى تعزيز مكانة لندن كمركز للتمويل الإسلامي في الغرب وجعل المملكة المتحدة وجهة مفضلة للعالم الإسلامي للاستثمار وإقامة الأعمال. فيما شهدت جمهورية الصين نموا سريعا في اعتماد التكنولوجيا المالية، وقد كانت العوامل الدافعة إلى ذلك تتمثل في سرعة نمو التجارة الإلكترونية، والزيادة السريعة في معدلات انتشار الإنترنت والهواتف المحمولة، بالإضافة إلى الدعم التنظيمي للحكومة الصينية ووضعها أطر تنظيمية لتحقيق الأمن السيبراني وحماية البيانات. إلا أنه في مطلع عام 2021 وضعت الحكومة الصينية ضوابط جديدة للتمويل من خلال شركات التكنولوجيا المالية العملاقة، حيث اشترطت لجنة تنظيم البنوك والتأمين الصينية على البنوك وجوب أن تضع سقفا للإقراض المشترك مع منصات التكنولوجيا المالية لا تزيد على (50%) من حجم تمويلاتها مستحقة السداد. فيما تحتل دولة الإمارات العربية المتحدة ومملكة البحرين والمملكة العربية السعودية المراكز الأولى على الصعيد العربي، فقد تمكنت دولة الإمارات من أن تكون في مصاف الدول الرائدة في مجال التكنولوجيا المالية المتطورة، سواء من حيث حجم الاستثمار في شركات التكنولوجيا المالية الناشئة أو من حيث عدد الشركات المتوطنة فيها، أو في مجال البيئة التنظيمية والتشريعية والمؤسسية الداعمة للتكنولوجيا المالية، فوفقا لدراسة أجراها مجلس الأعمال الأمريكي الإماراتي، استحوذت الإمارات على أكبر عدد من الشركات الناشئة في قطاع التكنولوجيا المالية بالشرق الأوسط وشمال أفريقيا، بنمطيها التقليدي والإسلامي، فضلا عن الصفقات والتمويلات منذ عام 2018 حتى عام 2020. حيث بلغت حصة الدولة من عدد الشركات نحو (45%) ومن الصفقات التي أُبرمت نحو (47%)، فيما تصل حصة الشركات العاملة في الدولة نحو (69%) من إجمالي التمويلات المقدمة لشركات التكنولوجيا المالية في المنطقة. وقد عزت الدراسة ازدهار قطاع التكنولوجيا المالية في الدولة إلى السياسات الحكومية الداعمة والمبادرات المهمة التي أطلقتها مؤسساتها المالية، وفي مقدمتها سوق أبوظبي العالمي، ومركز دبي المالي العالمي الذي يعد موطنا مفضلا لشركات التكنولوجيا المالية عبر تبني منظومة متكاملة لجذب هذه النوعية من الشركات، وليتمكن المركز من أن يستحوذ على أكثر من (50%) من مجموع شركات التكنولوجيا المالية في دول مجلس التعاون الخليجي، فقد تضاعف عدد شركات التكنولوجيا المالية المنضمة إلى المركز بأكثر من الضعف في عام 2020، فقد انضم نحو (189) شركة جديدة، وبذلك يصل إجمالي عدد الشركات إلى (303) شركة في مركز دبي العالمي. كما تتمتع الإمارات بكونها وجهة مفضلة للعمليات التكنولوجية نظرا إلى ارتفاع درجة الاتصال بين البيانات لديها، ما يجعلها بيئة خصبة للشركات الناشئة في هذا المجال. كما تلعب مؤسسة دبي لتنمية الاستثمار دورا حيويا في جذب الاستثمارات لقطاع التكنولوجيا المالية في الإمارة، بالإضافة إلى التوجه القوي والفعال للبنوك في دولة الإمارات نحو عقد شراكات وتعاون مؤسسي مع شركات التكنولوجيا المالية، لاسيما أن التعاون بينهما يحقق مزايا مالية إضافية للعملاء بعيداً عن التنافس، الأمر الذي يسهم في توفير شبكة من الخدمات المالية المبتكرة للعملاء من جانب، ويجعل الدولة سوقا واعدة لشركات التكنولوجيا المالية من جانب آخر. ومن المتوقع أن تشهد دولة الإمارات عام 2021 مزيدا من التطور التقني في قطاع التكنولوجيا المالية، عبر اعتماد التكنولوجيا السحابية والتي ستساعد شركات التكنولوجيا المالية التي تقدم حلول كشوف المرتبات على زيادة استيعاب الخدمات المصرفية بين السكان الذين يواجهون صعوبة في الحصول على الخدمات المصرفية أو الذين لا يستفيدون من الخدمات المصرفية إلا بقدر محدود في الدولة، ما يسهم في زيادة الشمول المالي، إذ من المحتمل أن تشهد شركات التكنولوجيا المالية الانتقال بعمليات تخزين البيانات والعمليات التشغيلية إلى التقنيات السحابية، الأمر الذي يؤدي إلى تعزيز المكانة العالمية لدولة الإمارات في مجال تبني وتطور التكنولوجيا المالية. { أكاديمي وخبير اقتصادي
مشاركة :