نكتب من أجل أن نكتب ونصادم الواقع بالخيال

  • 1/20/2019
  • 00:00
  • 3
  • 0
  • 0
news-picture

نكتب من أجل أن نكتب ونصادم الواقع بالخيالالجمع بين مشرق الأرض ومغربها سوف يأتي حتما يوم تقوم القيامة. أما الجمع بين الأدب والمال، فهو سيأتي ربما، بعد ذلك!طرق الحصول على المال كثيرة، ولكن الأدب آخرها. وطرق الأدب كثيرة أيضا، ولكن المال آخرها.لهذين السببين فإن الجمع بين مشرق الأرض ومغربها أسهل من الجمع بين الأدب والمال.أسهل، لأن الجمع بين مشرق الأرض ومغربها سوف يأتي حتما يوم تقوم القيامة. أما الجمع بين الأدب والمال، فهو سيأتي ربما، بعد ذلك!هناك استثناءات محدودة جدا في عالم الغير، ولكن لا يوجد استثناء في عالمنا، من امرؤ القيس إلى يومنا هذا.معرفة لهذه الحقيقة، نحن نكتب من أجل أن نكتب، وليس من أجل المال. الكل يعرف، أنه لولا جائزة نوبل لمات نجيب محفوظ فقيرا، على المعاش.إذا كنت تكتب من أجل الكسب المادي، فالطريق مفتوح، ولكنه طويل: أن تكون بمستوى نجيب محفوظ، وأن تحصل على جائزة نوبل. مع ذلك، فإن حصولك على هذه الجائزة لن يأتي، بكل حال من الأحوال، بينما أنت لا تزال قادرا على الاستفادة من المال.مع الأسف، جائزة نوبل لا تُمنح لكاتب في أول عمره. (لكي يقدر على الاستفادة من المال). وعندما حصل عليه نجيب محفوظ في آخر عمره، فإنه لم يكن يعرف ما يفعل به. تركه لعقيلته، لأنها كانت أصغر منه عمرا. وأعني: لأنه كان لا يزال فيها نَفَس لشراء شيء ما، لم يشتره لها كل “أدب” نجيب محفوظ.قد يبدو الأمر مؤسفا جدا. أن تنتظر زوجتك، بعد كل العبقرية والإبداع، وكل الأعمال الآسرة والخلابة، أن تحصل على جائزة ما لكي تشتري بها ما لم يتمكن أدبك كله من أن يشتريه لها.نحن نعيش في خضم هذه التراجيديا. وفي الأصل فإن قيمة المال تتضاءل كلما مضى بك العمر. ولا أدري لماذا تترافق نوبل مع مال يتم تقديمه (في الغالب) لمن لم يعد بحاجة إليه.نحن نكتب بسبب “لوثة” عقلية تجبرنا على الكتابة. بعبارة أخرى: الكاتب شخص مريض بـ”متلازمة الكتابة”. ولا أدري لماذا ينتظر من الآخرين أن يدفعوا له ثمن “متلازمته”.الذين يختارون طريق الفكر والأدب، يختارون بالأحرى الجحيم. ربما لأنهم خُلقوا وهم يحملون “جرثومة” الكتابة، التي سرعان ما تتحول إلى “متلازمة” تجعل المصاب بها لا يعرف ماذا يفعل، سوى أن يكتب.نحن نعيش بسبب هذه المتلازمة أيضا. إنها “جرثومة” ولكنها تنطوي على قوة دافعة للحياة أيضا؛ تنطوي على دفق خاص بها يجعل كل شيء في الحياة لا قيمة فيه، إلا هي. إنها الحياة بالذات.وهذا هو الوجه الآخر للتراجيديا.يقال إن توفيق الحكيم كان يركب سيارة “مهكّعّة” (عتيقة) عندما التقى لأول مرة بالسيدة برلنتي عبدالحميد، راقصة شارع الهرم المعروفة. فسألته مشيرة إلى سيارته: من أين لك هذه؟ فقال، “من الأدب”. وسألها مشيرا إلى سيارتها “الكاديلك”، “وأنت من أين لك هذه؟”، فقالت، مع ضحكة ماجنة: “من قلة الأدب”.إذن، الطريق واضح! إذا كنت ترغب بسيارة “كاديلك”، فلا تسلك طريق الأدب، لأنك لن تصل. وحتى إذا وصلت، فإن رخصة السياقة تكون قد أسقطت عنك.يمكن للكتابة (في نطاق الصحافة مثلا) أن تكون مهنة. هذا أمر مختلف. إنها وظيفة. ويمكنها أن تمنح المرء ما تمنحه أي وظيفة أخرى من كفاية أو ثراء. ولكن “اللوثة” تظل موجودة أيضا. فالجرثومة تشتغل أحيانا كثيرة بمعزل عن “الوظيفة”. وتتحداها أحيانا، فيقع الكاتب في فخ نفسه، أو في فخ متلازمته.ولولا بعض العقلاء الذين يمكنهم ضبط “الاندفاعات” و”الدوافع” التي تفرضها متلازمته عليه، فإن الكاتب غالبا ما يقع في ذلك الفخ، ظنا منه أنه على حق. هو يكتب انطلاقا من تلك القناعة أصلا. ولذلك فإنه على صدام دائم مع الواقع. وقد يجد نفسه معزولا، لأن “حقه” ليس هو الحق دائما.الكاتب أسير نفسه. والمرء في الأسر لا يستطيع أن ينتظر جائزة.نحن نكتب بسبب “لوثة” عقلية تجبرنا على الكتابةنحن نكتب بسبب “لوثة” عقلية تجبرنا على الكتابةوكان قدماؤنا يقولون، “أدركته حرفة الأدب” وكأنهم يقولون “أدركته مصيبة”. وكان واحدهم يكتب عمره كله، ويجمع وينسخ من حوله كتبا حتى تقع على رأسه لتقتله، كما فعلت مع الجاحظ، من دون أن يُدرك المال.هذه التراجيديا، تبدو وكأنها حادثة واحدة، ولكنها بالأحرى حادثة متواصلة، وتقتل كاتبا أو أكثر كل يوم. بل تقتلهم جميعا، بهذه الطريقة أو تلك.الكاتب، “أثول” أيضا (وأعني: استحكم جنونه). إنه مشغول بنصوصه حتى لكأنه مهووس بها وبمتعتها الخاصة. وهو أشبه بمن يمشي ساهما في شارع مزدحم بالسيارات السريعة. تلك النصوص تأخذه بعيدا عن عالم الواقع. حتى أنه لا ينظر إلى الواقع إلا بوصفه خشبة مسرح لكتابه المقبل.نحن نقلب الواقع من أجل ما نكتب. فتصوّر أي مرض هذا الذي يمكنه أن يفعل هذا الفعل بعقلك؟المسرحيون العميقون لا يمثلون على الخشبة فقط. إنهم يمثلون حتى وهم بين “الجمهور”. الدنيا كلها بالنسبة لهم “جمهور ومسرح”. وكذلك الكتّاب. الدنيا كلها بالنسبة لهم كتب وقرّاء. وهذه مصيبة. ولكن لا مفر منها لكي تكون كاتبا حقيقيا، مأخوذا بما تفعل.وأنت مصاب بهذه المصيبة، يجب ألا تنتظر مالا. خير لك أن تنتظر عطفا فقط، أو “تعاطفا”، مع حزمة ورد قد يمكن تقديمها لك، وكأنك على سرير مستشفى.نصيحتي: إذا اكتشفت أن لديك لوثة عقلية مثل هذه، لا تتخلّ عنها. لا “تعالجها” بمضادات حيوية. دعها تعالجك. دعها تأخذك إلى أي مكان. لأنك إذا لم تجد مفرا منها، فماذا بقي لك؟ اقبلها، وعش بها ومعها، لأنها إذا استحكمت وتلبست، فإنها لن تترك لك منفذا. سوف تكون هي أنت، ومن الخير لك في النهاية أن تكون أنت هي.إنها قد تبدو مرضا، إلا أنها بركة استثنائية تماما. إنها رضا وإشباع وتجربة حسية من نوع آخر. كما أنها ثراء من نوع آخر أيضا. ويحسدك عليه الكثيرون جدا، لأنهم يدركون أنك تعيش على غيمة مختلفة. ببساطة، لأنك قادر على أن تخلق من الإبداع والكشف والمعرفة ما لا يقدر أي مال أن يخلقه.تلك الغيمة هي ما يمنحك الشعور بالعلو، وبالمكانة الخاصة، وبالقدرة على أن تكون جزءا من عالم الثراء الأكبر واللانهائي، الذي يتجاوز كل حدود الثراء العابر والمؤقت.شيئا فشيئا سوف تكتشف أنها أثمن من كل مال. إنها تمنحك حياة أعلى قدما عن حياة الآخرين. إنها معنى آخر للوجود. ربما كان هو الوجود الحقيقي. وكل الباقي ظلال زائلة وزائفة.كاتب عراقي

مشاركة :