تحاول اللذات الإنسانية خلال مسيرة الحياة الصمود بقوة في وجه عواصف الزمن المريرة ونوائب الدهر الملازمة للحياة، التي ما انفكت ترسم تجاعيد الوجوه البريئة بقسوتها وسطوتها، ومحاصرتها لكينونة الذات في محيط أعمالها وانشغالاتها وتقلباتها المستمرة، فلم تترك لها فرصة للبوح عمّا يختلج في الصدر ويدور، قبل أن يتطور ويترسب على هيئة أزمات نفسية تلوث فكر الكائن وتحتل عقله. ثم تتبلور بعد ذلك لتعكس وتشكل صورة بائسة لمكنونات الذات وعلاقتها بالكون، فتحجب عنها لذة الاستمتاع بجماله وكل ما هو جميل في الحياة.. لذلك تجد الإنسان منهمكا طوال فترة عيشه في البحث عما يكفل له أولا: بقاؤه في ملفات الدنيا على قيد الحياة، فإن هو ضمن الأول وأنّى له، راح ينقّب ثانيا عما يجلب السعادة والسرور إلى قلبه المتورم بالشقاء والشدة. وما زال هذا «الكون بكينونته وسيرورته في مرحلة صيرورة مستمرة لا تتوقف». وليس الأمر على كل حال، فالسواد الأعظم من البشر تتخطفه سهام الموت قبل تحقيق الشرط الإنساني الأول الضروري للبقاء، ناهيك عن شرط طلب المتعة والملذات. ومن هنا كانت محاولات الذات الإنسانية الدؤوبة عن مواطن الجمال ومكامن السعادة لا تنقطع إلى نهاية محددة وغاية جاهزة، رغم القيود والسلاسل التي أحيطت بها العقول جرّاء الانجراف الكامل نحو أيديولوجيات بعينها، والتموقع في نقطة واحدة داخل قوالب عامة ومعروفة، عدم إعطاء العقل فرصة للانعتاق والانطلاق تجاه النور والمستقبل، فظل يسير على وتيرة الكبت والعناء المتسلل إلى أعماق عمقه، المبني على شظف وقسوة العيش، إلى أن تلوح أمامه بوادر الانفراج والانغماس في عالم الخيال المنفتح على رؤيا كونية، تمكنه من النظر إلى الواقع من مختلف الزوايا، وتتيح له التعبير بحرية واختيار، فما يكون منه إلا أن يتشبث بها بكل قوته وفطرته الكامنة في كينونته ومكوناته الأولى التي حُجبت عنه خلف سدود المنع والتحريم التي فرضتها عقول الجهل والتقليد والتشدد، فجنت أكبر الجنايات على تعاليم الدين وسماحته ووجوده المتأسس أصلا على اكتناه الجمال وبعثه في النفوس المؤمنة المعتدلة، لتحيا الحياة العادلة التي تضمن للإنسان رغد العيش، وتدخل على نفسه تباشير الفرح والسعادة المتحققة في فهم الدين الفهم الصحيح المتناسب تماما مع الفطرة التي فطر الله الناس عليها، فيعمر قلبه من بذور الجمال والحب للكون والحياة والإنسان، ويكتسي روحه حلة خضراء زاهية. ونتيجة لذلك، لم تكن دموع الشيخ على أصداء ناي كشاف الفنان الملهم والأصيل في مهرجان القحمة إلا قنابل مكبوتة انفجرت لتنسف ما بقي من عوالق الصحوة النائمة والمدمرة لكل جميل، هكذا عبّر الشيخ بدموعه المدوية عندما هوت بسرعة هائلة، لتمسح تلك التجاعيد المرسومة على خديه الشريفتين، متأثرة بصوت الناي وإيقاعاته التي تشبه الرعود وتلمع كالبروق، فتحرق مخلفات تلك الحقبة المقيتة، ولتعلن للعالم أجمع أن في القلوب ما يفيض من الخير والنقاء والإنسانية الحقيقية التي تحتل قلب المؤمن الحق، ولا مكان لها في غيره. وقد استطاعت الكاميرات الحديثة الاقتراب من دموع المسن، بعد أن عجزت أفكار القمع والحجب والعزل عن الوصول إلى مكان الشيخ، لثنيه، بفعل شدة حرارة الدموع التي أضاءت مسرح القحمة، وأعادت لكثير من القلوب الممتلئة بالخير والدعاء والمغلفة بالحب والنقاء حياتها وحيويتها.
مشاركة :