التاريخ لا يعيد نفسه إلا في شكل مهزلة

  • 1/28/2019
  • 00:00
  • 4
  • 0
  • 0
news-picture

قال صاحبي:  ألم يحن الأوان لقلب صفحة 2011م والانطلاق نحو مرحلة جديدة تقوم على الحوار وإعادة بناء الثقة؟ قلت:  أرى أن الصفحة قد قُلبت بالفعل، وقد تم بالفعل تجاوز مرحلة أحداث 2011م، وتداعياتها، ونتائجها الكئيبة، فماذا تريد قلب صفحة قلبت أصلاً؟ قال: أنا أتكلم عن استعادة المعارضة أو الجزء العقلاني منها إلى دائرة العمل السياسي، أو ما يسمى بالمجتمع السياسي، فهل يمكن أن تكون هنالك حياة سياسية سليمة من دون معارضة قوية وفاعلة؟ قلت: أتفق معك في أمر واحد وهو أن الديمقراطية تحتاج إلى الحرية وإلى وجود معارضة، وأن الفضاء السياسي العام لم يتم غلقه كما تطرح في السؤال، فهو إلى اليوم ما يزال مفتوحًا، وهنالك جمعيات سياسية تنشط وتعمل، وتشارك في الانتخابات وتصل إلى البرلمان وإلى المجالس البلدية. وغدًا كانت جمعيتنا قد تم سحب ترخيصهما وإيقافهما عن العمل، بسبب مخالفات أثبتها القضاء وأدت إلى ما أدت اليه من نتائج. قال: أتفق معك في هذا الأمر المعلوم، إلا أن الديمقراطية من دون معارضة سياسية قوية وديمقراطية رشيدة وعقلانية تظل ناقصة غير مكتملة. وأنها من دون حرية تبقى كسيحة. قلت: وأنا لا أختلف معك في ذلك من دون مواربة، او مزايدة، لأن هذه العناصر هي من بين أهم أبجديات المجتمع الديمقراطي. وإذا كان ذلك صحيحًا فإن التجربة الديمقراطية الوليدة في البحرين قد قامت على مثل هذه الأسس اللازمة للتقدم نحو الديمقراطية، ولو بشكل تدريجي، استنادًا إلى إجماع وطني على الثوابت، وتأطير ذلك بسياج قانوني واضح، مما أتاح مجالاً لا بأس به للعمل السياسي المنظم والحر، مع مساحة معقولة من الحرية السياسية والإعلامية. هذه حقيقة لا مبالغة فيها، ولا مزايدة عليها، لمن يريد أن يقيّم التجربة بموضوعية، حيث أتاح المشروع الإصلاحي فرصة كبيرة للبلد لخوض غمار تجربة ديمقراطية متوازنة، بعيدًا عن أية ضغوط أو إكراهات خارجية. ولكن السؤال بمعيار السياسة وبميزان التاريخ: من ضيَّع هذه الفرصة؟ ومن أهدر أفقها المفتوح وتسبب في تضييقه؟ أليست هي تصرفات وأساليب بعض تلك المعارضة التي تدافع عنها الان؟ قال صاحبي: من السهل دومًا تحميل المعارضة المسؤولية الكاملة على ما حدث، وهذا هو الحل السهل، ولكنني أتحدث هنا عن المستقبل، عن الأفق، وليس عن الماضي. جوهريًا لا يوجد خلاف كبير حول الأهداف السياسية المستقبلية، الخلاف هو حول التوقيت والمدى والخطوات المطلوبة في المرحلة الحالية وفي المرحلة المستقبلية، وباختصار حول بناء الثقة، ولذلك ما أزال أعتقد أنه يجب أن تبدأ المرحلة الجديدة بمساعدة المعارضة على تجاوز نفسها وخطابها، من خلال العمل على دمجها مجددًا ضمن الحراك السياسي الواقعي الإصلاحي وتشجيعها القبول بحلول مرحلية متوازنة وتوافقية تراعي مصالح الجميع، والمصلحة العليا للوطن. قلت: في تقديري لن يتم ذلك في ظل التبلد السياسي وتكرار ذات الخطاب القائم على العدمية السياسية والتعدي على القانون وعدم الاعتراف بالأخطاء التي حدثت. فلا يمكننا أن نمضي إلى المستقبل – مع مثل هذه الرؤية من دون جرد حساب ووضع النقاط على الحروف، ولكن التجربة بينت أن أغلب تلك المعارضة ما تزال تعيش في طور المكابرة وترفض الاعتراف بالأخطاء، واختارت أن تحيا في فقاعة الأوهام بعيدًا عن الواقع الجديد الذي فرضته التحولات المحلية والإقليمية والدولية، ولذلك ترى أن البلد يمضي نحو المستقبل من دونها. وأعتقد بكل صدق وموضوعية أن ما سمى بالربيع العربي قد وضع جميع التيارات السياسية والفكرية العربية، وخاصة الأيديولوجية منها، في مأزق وجودي دفعها إما إلى أن تتطور من داخلها تطورًا عميقًا وحاسمًا لتتأقلم مع الواقع الجديد، وإما أن تموت بصمت، مثلما يحدث حاليًا لبعض التيارات والجماعات التي عاشت طويلا في موقع المعارضة ودأبت على تصوير نفسها على أنها ضحية من أجل أن تحظى بتعاطف أبدي من جمهور لم يعد يثق فيها ولا في خطابها، بل إنه لم يعد يغفر لها الجمود (التي تسميه هي ثبات على المبدأ) ولا تلك الأخطاء التي ورطت فيها البلاد والعباد وكلفتهما خسائر ضخمة ما يزال الجميع يدفع ثمنها إلى اليوم.  رد صاحبي: لا شك أن المعارضة كان لها النصيب الأكبر من المسؤولية؛ لأنها لم تنسجم مع متطلبات حركة التاريخ، ولم تقدر الواقع حق قدره، فتورطت في رفع سقوف المطالب والمطامع، وتوريط الجمهور في حركة لم يغب عنها العنف وتجاوز القانون وتجاوز الثوابت، ولكن، ومع ذلك، ما زلت أرى أن هنالك فرصة لاستعادتها وإعادة بناء المجتمع السياسي على نحو متوازن وأكثر فعالية وأكثر واقعية بوجوه جديدة تستخلص الدرس مما سبق؟ قلت: لقد كان من الصعب على تلك المعارضة التحرك نحو منطقة الاعتدال لما كانت موجودة في الساحة بكافة إمكانياتها وفرصها، لسبب بسيط، وهي أن هذه المنطقة كانت أصلاً موجودة ومطروحة، ولكنها كانت مرفوضة من قبلها، ومع انه لم يكن هنالك من داعٍ لكل ما حدث وجرى بتكلفته العالية على الجميع. وبالتالي فإن التوجه نحو حل الوسط السياسي، بمتطلباته العملية الواقعية، والقبول بالتمشي التدريجي الذي يواكب توجهات وأهداف وآفاق الإصلاح السياسي كان - للأسف - غائبًا في أغلب الأحيان عن أذهان أغلب المعارضين. ولقد كنت دائمًا وما أزال مع الحوار ومع الشراكة الوطنية، وضد أي شكل من أشكال التطرف أو الاقصاء، إلا لمن أقصاه القانون، ولكني أعتقد أن التاريخ لا يعيد نفسه إلا في شكل مهزلة، أو في شكل مأساة، والذين لا يقرأون التاريخ محكوم عليهم أن يعيدوه أكثر من مرة. وأن يلدغوا من ذات الجحر ألف مرة. فالقوى المحسوبة على اليسار تحديدًا - والتي كان يفترض أنها تمتلك أكثر من غيرها القدرة على التحليل وعلى فهم حركة التاريخ - ارتكبت خطأً فادحًا بتحميل الواقع أكثر مما يحتمل، فتورطت في عملية، أقل ما يمكن أن يقال عنها انها اتسمت بالطفولية السياسية، وسريعًا ما تلقفت قوى التطرف (من داخل الأفق الطائفي) هذا التوجه، ودفعت به نحو العبث السياسي، مما أسقط حتى شرعية وجودها كجمعيات مرخصة وفقًا للقانون. ولعل ذلك هو ما جعل القسم الأكبر من مكونات المجتمع السياسي الأخرى - لا يثقون كثيرًا بأطروحات هذه المعارضة. فبقدر ما كانت السلطة منخرطة بالفعل في الإصلاح، فإنها كانت ترى ضرورة أن تسير الأمور وفق منطق تدريجي، ومن خلال توافق وطني يراعي مصلحة الجميع. والأدهى والأمر من ذلك هو تشكل ذلك حلف (غير المقدس) بين القوى المحسوبة على اليسار، والقوى الطائفية المحسوبة على الإسلام السياسي، وبقية القصة أنت تعرفها جيدًا، ولذلك لا أرى أفقًا قريبًا مفتوحًا لاستعادة الذين خسروا في معركة السياسة وفي معركة التاريخ وفي معركة الفكر.

مشاركة :