يسمح تتبع مسار تطور الحضارة عبر التاريخ بملاحظة تنوع اتجاهاتها، وتعدد العناصر البشرية الفاعلة فيها، ورصد التحولات الجوهرية التي اعتملت في العالم القديم، وأدت إلى شطب الكثير من الحضارات المزدهرة من على الأرض، واختفاء شعوب صنعت تاريخ الإنسانية وتسيدت إمبراطورياتها ثم توارت. فمن حضارات الشرق الأقصى، مرورا بحضارات الشرق القديم، انتقلت موازين الفعل الحضاري من منطقة لأخرى لتستقر الغلبة في عصرنا الراهن في ذلك الجزء من كوكب الأرض الذي لم يكن معروفا أصلا عند القدماء، ونعني بذلك الجزء الشمالي للقارة الأمريكية. فكيف حصلت هذه المتغيرات الحضارية في العصر القديم؟ وكيف يمكن تصور مدى هذه التحولات في المستقبل؟ وهل ثمة قوانين تفسر سيرورات التاريخ؟ أسئلة وأخرى يحاول الباحث المغربي عبداللطيف الركيك مقاربتها في هذا الحيز من زاوية فكرية صرفة. هوية وتاريخ صنعوا أحد أهم عناصر الحضارة إشراقا في التاريخ القديم، وهي ابتكار أولى إرهاصات الكتابة، وشكلوا إحدى أعظم الإمبراطوريات في العالم القديم. هم الآن مجرد عشيرة وأقلية قليلة عددا وعديدا وتأثيرا ونفوذا وانتشارا في العراق الحالي، بعدد لا يتجاوز بعض آلاف: إنهم الآشوريون بناة الحضارة الآشورية وصناع الكتابة المسمارية. كذلك الأمر بالنسبة للكلدانيين الذين أنشأوا إحدى أعظم الإمبراطوريات الشرقية في العراق القديم. يستقر الأشوريون- الذين يدينون بالمسيحية اليوم - في الموصل ونينوى بشمال العراق، ولا يتعدى تمثيلهم في البرلمان العراقي ثلاثة مقاعد، لازالوا يستعملون لهجة تعود إلى اللغة الآرامية تسمى اليوم الآرامية الشرقية. وينطبق الشيء نفسه على الكلدانيين والسريانيين الذين يعيشون كأقليات في العراق الحالي. في مصر القديمة، برزت إحدى أعظم الحضارات القديمة، التي كان لها فضل اكتشاف واختراع أول رموز الكتابة التصويرية، وأخرجت للعالم شكلا من البناءات العظيمة (الأهرامات) التي أدهشت بتعقيداتها المعمارية والفنية القدامى والمحدثين. إنهم فراعنة مصر. اليوم لا أثر لبناة هذه الحضارة العظيمة، ولا للغتها ولا كتابتها. عبروا البحار، وقطعوا المسافات، واخترعوا أشكالا من التواصل تضاهي من حيث تأثيرها أرقى أشكال التواصل الموجودة حاليا مع اختلاف السياقات. وصلوا إلى كل زاوية، وكل مرفأ أو مرسى يمكن أن ترسو عنده سفنهم، كان لهم فضل اختراع الحروف الأبجدية واختصار الكم الهائل من الرموز التي وجدت في عصرهم، وهي نفسها الأبجدية التي نستعمل اليوم. آثار تجارتهم متناثرة في كل المواقع على طول ضفتي البحر الأبيض المتوسط. أين الفينيقيون اليوم بمهدهم على الساحل اللبناني؟ لقد اندثرت حتى آثارهم بموطنهم الأصلي، ولا شيء يدل على أن الفينيقيين الذين عمروا الأرض واتصلوا بشعوبها قد مروا من هناك، وكأنهم سحابة عابرة في صيف الحضارة؟ لقاء الشرق والغرب في أوروبا، برز الرومان في إيطاليا، وانطلاقا من مدينة صغيرة هي روما، تشكلت إمبراطورية مترامية الأطراف ضمت الشرق والغرب، وأخرجت للإنسانية باكورة هذا التلاقي والاختلاط الحضاري من خلال عناصر حضارية متميزة. لا أثر اليوم لإمبراطورية روما، بيد أن أحفاد الرومان موجودون اليوم في إيطاليا. فلعله من الممكن تلمس آثار الروماني القديم في الإيطالي المعاصر في جوانب عدة. ماتت اللغة اللاتينية، لكنها لم تمت موتتها النهائية، فقد بقيت مستعملة في الكنائس بعد ظهور المسيحية، وما زالت إلى اليوم تدرس في المعاهد والجامعات الغربية. في الجزر اليونانية، تفتقت عبقرية الشعب الإغريقي، فلمع في الكثير من مظاهر الحضارة، فالإغريق هم من تلقف صنيع الشرق لجهة تطوير الكتابة من طور الرموز إلى مرحلة الأبجدية، وهم من شكلوا إمبراطورية عظيمة غزت الشرق القديم والشرق الأقصى وصولا إلى الهند. بادت إمبراطورية الإغريق تماما مثل غيرها، لكن حضارتهم مستمرة إلى اليوم، ولا تزال اللغة الإغريقية تقاوم عاديات الزمن لمدة مئات القرون. بالمقارنة بين مصير إمبراطوريات وحضارات الشرق، وإمبراطوريات وحضارات الغرب الأوروبي، نلاحظ مقدما أن إمبراطوريات الشرق قد تعرضت للمحو والزوال المبرم ككيان سياسي وحضاري على حد سواء، بينما زالت إمبراطوريات الغرب، واستمر تأثير حضارتها في أشكال متطورة في العصر الراهن. فهل هناك سيرورات معينة في التاريخ يمكن أن تفيد في تفسير زوال الحضارات وانتهاء الإمبراطوريات السياسية؟ كيف استمرت عناصر حضارة غرب أوروبا اليوم، في وقت اختفت فيها معظم معالم حضارات الشرق القديم والعنصر البشري المنتج لها؟ أين الآشوريون والكلدانيون والفينيقيون والآراميون والفراعنة؟ تذوب ولا تفنى في البدء يجب التأكيد على شيئين: أولا: أن الحضارة لا تموت ولا تزول ولا ينقضي عمرها بخلاف الكيانات السياسية. إن مفهوم الزوال كما نستعمله في هذا الحيز يتضمن معنى عدم استمرار الكيانات الحضارية ككيانات مستقلة واستمرار نسق تطورها الداخلي. أما واقع الحال أنها استمرت بالفعل، لكنها ذابت وسط حضارات الشعوب الأخرى التي سيطرت على مجالاتها الأصلية. ثانيا: أن نظريات ابن خلدون بخصوص أعمار الدول، لا يمكن أن تسعف في تحليل مجريات التاريخ القديم، وتبقى خارج الإطار تماما، لأنها لا تصدق إلا على فترة من التاريخ الوسيط وفي مجال جغرافي معين. من كان يتصور يوما بأن بناة الإمبراطورية الآشورية العظيمة بإنجازاتها سيختفون تماما من مسرح الأحداث، ويتحولون إلى مجرد أقلية لا ترقى من حيث العدد إلى مصاف رفع مطالب المحاصصة باعتبارها مكونا إثنيا تسري عليه مواثيق الأقليات؟ وأين الفراعنة، وأهراماتهم التي حيرت العالم ولا تزال تشهد على مرورهم؟ وأين الفينيقيون، ورسوم ونقوش سفنهم لا تزال ماثلة على الكثير من اللقى الأثرية؟ مما لا شك فيه أن العناصر البشرية من بناة هذه الحضارات الشرقية لم تتعرض للإبادة والتطهير العرقي من طرف الشعوب الغازية لمجالاتهم، ومن المؤكد أن تلك العناصر البشرية قد استمرت، وأنها هي نفسها الشعوب التي تستوطن ما نسميه اليوم بالمشرق العربي. بيد أنها تعرضت لإبادة من نوع آخر، إبادة حضارية فقدت معها جميع عناصر حضارتها، حيث لم نعد نعرف اليوم شيئا عنها ما عدا مخلفاتها التي لا تتعدى أحجارا متراكمة هنا أو هناك، أو لقى أثرية معروضة على واجهات زجاجية في المتاحف. محدودية الجغرافيا من كان يتصور أن شعبا قليل العدد يستوطن مجالا جغرافيا محدودا في شبه الجزيرة العربية سوف ينتقل من مرابضه ويتخلى مؤقتا عن حضارته البدوية وعادات الترحال ليرتحل إلى مجال حضارات البناء والإنشاءات ليأتي على مجالات مترامية الأطراف، وليضع بنفسه نقطة النهاية لحضارات مزدهرة عمرت طويلا، ويجعلها نسيا منسيا، ويحولها إلى مجرد ذكريات غامضة. زحفت القبائل العربية خلال فترات تاريخية غير محددة بالضبط من اليمن والحجاز نحو الشمال، واحتلت مجالات الحضارات الشرقية التي كان تعيش طورا من الاحتضار الحضاري. وهكذا انتشروا في العراق القديم والأردن وفلسطين وسورية ومصر، فوقع تعريب شامل لجميع الشعوب القديمة التي كانت تستوطن المجال. وبمرور الوقت، وبدل الحديث عن آشوريين وكلدانيين وفينيقيين وآراميين وسريان وفراعنة، صار الحديث عن أمة عربية تسيطر على مجال شاسع يمتد من المحيط الأطلسي مرورا بالنيل والفرات وضفاف المتوسط وصولا جهة الغرب إلى الخليج. كيف زالت هذه الحضارات الشرقية، وتعربت عناصرها البشرية بهذه السهولة؟ وكيف اندثرت عناصر حضارتها لمصلحة حضارة شعوب أقل ارتقاء في موازين الحضارة وقته؟ هل مرد ذلك إلى قوة العنصر العربي؟ أم أن الأمر راجع إلى عوامل داخلية مرتبطة بالسيرورة الداخلية لتلك الحضارات التي ربما استنفذت مبررات وجودها وفعلها الحضاري؟ حضارات انتقالية تبدو الإجابة عن هكذا أسئلة من الصعوبة بمكان. غير أننا نرجح فرضية مؤداها أن انكماش حضارات الشرق القديم وزوالها وانمحاء لغاتها وباقي عناصر حضارتها راجع بالأساس إلى ميكانيزمات تطور داخلي لتلك الحضارات، التي كانت على ما يبدو حضارات انتقالية لم يكن من الممكن أن تصل إلى أبعد من المدى الذي وصلته في تطورها. فقد أدت دورها في المشترك الإنساني الذي نسميه حضارة ثم زالت من على مسرح الأحداث. إن تلك الحضارات كانت على ما يظهر حضارات انتقالية بينية. فإذا نحن ركزنا على اللغة والكتابة كعناصر من تلك الحضارات، فلا نكاد نعثر على دليل مقنع يوحي بأن تلك الحضارات قد أوجدت هذه العناصر الحضارة في شكلها النهائي القابل للاستمرار. فقد أسهم الآشوريون بشكل بدائي من أشكال الكتابة، مثلما استعملوا لغة خاصة بهم سرعان ما تحولت إلى لهجات إقليمية قبل أن تندثر بالكامل، ثم خضعوا بعد ذلك للحضارات الوافدة، وتركوا إنتاجاتهم في هذا الجانب لمصلحة ما نسميه المشترك الإنساني. وكذلك فعل الفينيقيون، فقد طوروا الملاحة البحرية ردحا من الزمن، ثم تركوا البحار لغيرهم، وأخرجوا الكتابة في صيغة أقرب بكثير إلى الأبجدية، لكنها مرحلية وكان لا بد من تسليم هذا المشعل للإغريق الذين أخرجوا الأبجدية بالصيغة والشكل الذي نستعمله اليوم. إن تلك الحضارات المشرقية لم تكن - بسبب هذا الطابع الانتقالي - لتعيش عمرا حضاريا أطول، حيث لم يتجاوز إطارها الزمني 3000 إلى 2000 سنة من الوجود والفعل على أبعد تقدير. وأخيرا، وبالمحصلة، هل سيعيد التاريخ نفسه؟ هل ستخضع حضارات وشعوب إمبراطوريات العصر الراهن بعد مرور 3000 سنة من الآن للسيرورات نفسها التاريخية تماما مثل شعوب العالم القديم؟ في مسعى إبداء مجرد فكرة للنبش في الإجابات الممكنة للأسئلة التي طرحنا، يمكن القول بأننا لا نعتقد بأن سيرورات وقواعد التحول التي حكمت التطور الحضاري في العالم القديم سوف تسري على الحضارات والإمبراطوريات المعاصرة، فالعمر الافتراضي لحياة الحضارات القديمة سوف لن يسعف بأي حال في محاولة فهم وتحليل مصير حضارات وإمبراطوريات اليوم لاختلاف السياقات التاريخية. مستقبل متفرد فالظاهر أن حضارات الزمن الراهن، في الكثير من مجالاتها كاللغة والكتابة، سوف لن تتعرض لنفس مصير الزوال حتى ولو بعد انصرام آلاف السنين من الآن، لسبب بسيط وهو أن هذه العناصر الحضارية قد تركزت واستقرت في حلتها النهائية، ووصلت إلى أقصى مراحل تطورها، حيث يكون من الصعب تعرضها للانقراض، وكل ما يمكن أن يحدث لن يتعدى حدوث تغييرات شكلية وتحسينات لن تتجاوز الجوهر الأصيل القادر على الصمود والاستمرار. وتبعا للتحليل نفسه، فإنه قد تتغير أشكال وأنواع الأنظمة السياسية وقد تظهر أيديولوجيات جديدة، بيد أن لا شيء يوحي بإمكانية حصول اختلال جوهري في موازين ومراكز الحضارة وتوازن القوة في العالم في المستقبل البعيد. فقد تتطور عناصر حضارية وتحدث مستجدات كثيرة بسبب التطوير التكنولوجي المتسارع الذي لا نعلم مداه في المستقبل، لكنه سوف لن يكون عنصرا مدمرا للأساس الحضاري الذي تشكل في عصرنا الراهن ولن يكون بمقدوره الإتيان بحضارات جديدة غريبة عن نسق التطور الحضاري الحالي، والأرجح أن تلك التطورات التقنية ستكون معينات لضمان استمرارية المنتوج الحضاري الإنساني الحالي في المستقبل بصورة أكثر تحديثا وحسب. وعلى سبيل الختم، يمكن الاستنتاج بأن الحضارات الإنسانية منذ الفترة القديمة وإلى الآن تخضع لشروط انتقالية تبقى عصية على الإدراك والفهم، ومن السابق لأوانه إنتاج قواعد وقوانين تحكم التحولات الحضارية لا في الماضي ولا في المستقبل. إلا أن ذلك لا يمنع من إبداء بعض الأفكار تعميقا للنقاش في مسالة تبدو في غاية التعقيد. إن استقراء تطور الحضارات خلال الفترة القديمة يسمح على الأقل باستنتاج أولي مفاده أن التاريخ في المستقبل لن يكرر نفسه، ولن يعيد إنتاج التحولات الحضارية نفسها التي حدثت في الماضي البعيد على مستوى المجال والوعاء الزمني وعناصر الحضارة وشكليات تحولها. إن التحولات الحضارية العاصفة التي حدثت في الماضي لن تتكرر على ما يبدو في المستقبل وبالوتيرة نفسها. فمع أن التطور الحضاري في المستقبل سيكون أقوى وأسرع، فإنه قد يخدم التوازن الحضاري والمشترك الإنساني الذي اختمر في أيامنا هذه على شكل أساس متين قابل للحياة في الآماد البعيدة، فلعلها ستدعم استمرار الكثير من مظاهر حضارة الراهن وليس العكس، وربما سيكون من الصعب - ولو في المستقبل البعيد - تناول حضارات الفترة الراهنة بالدراسة باعتبارها حضارات بائدة غامضة ومجهولة ومشفرة.
مشاركة :