لا شيء يشغل الطبقة السياسية في الجزائر ومعها الإعلام مثل ملف تعديل الدستور الذي يراوح مكانه منذ كشف الرئيس عبد العزيز بوتفليقة العام 2011 رغبته في تعديله ثم رغبته في أن يكون توافقيا مثلما قال عقب تأديته اليمن الدستورية في 2014، لكن لا السلطة كشفت للرأي العام تفاصيل التعديل الذي نظمت حوله مشاورتين سياسيتين واسعتين ولا المعارضة قبلت الجلوس إليها فيما تتباين اجتهادات المراقبين بشأن كيفية تمرير هذا التعديل الثامن من نوعه في تاريخ الجمهورية على البرلمان صاحب الأغلبية المؤيدة للرئيس أم عبر استفتاء شعبي يعيد الاعتبار لصوت المواطن. وعاد موضوع تعديل الدستور مجددا قبل أسبوع فقط بعد تسريبات صحفية تحدثت عن لقاء جمع الرئيس بوتفليقة برئيس جهاز المخابرات الجنرال محمد مدين ورئيس أركان الجيش الفريق قايد صالح تمحور حول تعديل الدستور ورغبة الرئيس في معرفة رأي الرجلين حول الطريقة التي يرونها صالحة لتمرير التعديل إن كان عبر البرلمان أو الاستفتاء الشعبي فضلاً عن استشارتهما بشأن مواد تتصل أساساً بدور الجيش وجهاز المخابرات وموقعهما في الدستور المرتقب. وكان بوتفليقة قبل ذلك التقى في يوليو 2014 بقيادات أمنية وعسكرية قالت تسريبات صحفية آنذاك انها تناولت مواد بعينها من الدستور أبرزها المادتان 25 و26 المتعلقتان بدور الجيش، ومجالات تدخله بالأخص خارج الحدود في مثل هذه الظروف التي تمر بها منطقة الساحل والشمال الإفريقي، فضلاً عن المادة 137 التي تتعلق بدور "المجلس الأعلى للأمن" الذي لعب دوراً هاماً في توقيف المسار الانتخابي العام 1992 وما اتصل به من قرارات حاسمة شهدتها البلاد لاحقاً. استحداث منصب نائب الرئيس لتجاوز وعكة بوتفليقة ومنذ إعلانه عن رغبته في تعديل الدستور لم يتوقف حديث المناوئين للرئيس عن مضي محيطه نحو استحداث منصب نائب رئيس الجمهورية للانتهاء من حرج التوعك الصحي الذي حال دون تمكن بوتفليقة من القيام بكل صلاحياته الدستورية كاملة أو النيابة عن الرئيس في حال شغور المنصب الرئاسي لأي طارئ. لكن الأخير سرعان ما راح في 21 مارس 2014 يطمئن في أوّج حملة الرئاسة عبر وزيره الأول عبدالمالك سلال أن مشروع إصلاح الدستور لا ينص على استحداث هذا المنصب قبل أن يرسل بوتفليقة نفسه في خطاب مكتوب أعقب مجلسا وزاريا ترأسه أواخر العام 2014 إشارات طمأنة باتجاه المعارضة تحديدا بقوله إن "مشروع مراجعة الدستور لن يكون في خدمة سلطة أونظام ما، فيما يرى مراقبون أن محيط الرئيس سيسعى عبر التعديل إلى تفويض بعض صلاحيات بوتفليقة التنظيمية إلى الوزير الأول كحل لتجنب استحداث منصب نائب الرئيس الذي اثار استياء المعارضة وتنظر إليه على أنه إدامة بقاء بوتفليقة في الحكم رغم اعتلاله الصحي. الاستفتاء لضرب المشككين في شعبيته الرئيس وتتحدث تسريبات من القصر الرئاسي أن الرئيس يرغب في طرح الدستور على الاستفتاء الشعبي في محاولة لكسب ودّ الجزائريين، الغاضب بعضهم بمناطق الجنوب على خلفية ما اعتبروه تجاهل السلطة لهم وشروعها في دراسات التنقيب عن الغاز الصخري رغم مخاطره على بيئتهم وصحتهم. وقد يرى بوتفليقة في طرح مشروع التعديل الدستوري على الشعب حيلته الوحيدة لاسترجاع شعبيته التي تراجعت كثيراً منذ عهدته الثالثة فضلاً عن تشكيك المعارضة في شرعيته وصارت تدعو إلى انتخابات رئاسية مسبقة. وكان عبدالمالك سلال في تصريح للصحافة خلال تنصيبه الرسمي للجنة تعديل الدستور في 8 أبريل 2013 قال ان الرئيس بوتفليقة وحده مَنْ يقرّر الصيغة النهائية لتعديل الدستور. المعارضة تدير ظهرها للرئيس ويحكي مقربون من محيط الرئيس أن بوتفليقة غير راض عن المشاورات التي أجراها أحمد أويحي بشأن مقترحات تعديل الدستور بل واستاء من عدم تمكن الأخير من جلب المعارضة إلى طاولته، وهو ما دفعه مؤخرا إلى تجديد الدعوة إلى قوى المعارضة للمشاركة في المشاورات عندما قال: "إن الباب ما زال مفتوحا"، فالرئيس لا يمكنه الحديث عن دستور توافقي وغالبية المعارضة أدارت له الظهر، بل ويخرج مدير ديوانه احمد أويحي في 20 يونيو 2014 ليوجّه إشارت للمعارضة قائلا: "نحن ننتظر الأطراف المقاطعة حتى بمواقفها العنيدة للسلطة" في إشارة إلى ال 12 حزبا سياسيا التي رفضت يد بوتفليقة الممدودة إليها على رأسهم الأحزاب ال 5 التي تتكون منها "تنسيقية الانتقال الديمقراطي" وبعض أحزاب التغير الذي يقوده رئيس الحكومة الأسبق علي بن فليس إضافة إلى عدد من رؤساء الحكومات السابقين على غرار مولود حمروش وأحمد بن بيتور وسيد أحمد غزالي. جولة ثالثة للمشاورات ويكون عدم حسم الرئيس في صيغة التعديل الدستوري فضلا عن عدم رضاه عن الطريقة التي أديرت بها المشاورات السابقة وراء الإرجاء المستمر لطرحه إمّا على البرلمان أو الاستفتاء الشعبي لكن لا شك أن ذلك سيطيل من عمر السلطة، فالأحزاب الموالية لها لم تتحرج هي الأخرى في دعوة نظيرتها في المعارضة إلى المشاركة بمقترحاتها بشأن التعديل رغم أن المشاورات انتهت وتقريرها فوق مكتب الرئيس، فيما يرى مراقبون أن الدستور (التوافقي) بالشكل الذي يرغب فيه بوتفليقة سيكون مرهونا بمشاورات جديدة ثالثة تنخرط فيها المعارضة في وقت يبدو أن الأخيرة لا تريد الالتفات إلى الوراء وتطالب اليوم باستثناء "جبهة القوى الاشتراكية" لزعيمها الروحي حسين آيت أحمد بتنظيم انتخابات رئاسيات مسبقة في 2015 لتحقيق انتقال سياسي سلس وديمقراطي. 7 دساتير.. بوتفليقة عدّل اثنين ويطمع في الثالث وتحصي الجزائر 7 دساتير منذ استقلالها العام 1962 واحتكمت البلاد إلى دستور واحد (1963) لم يخضع لتعديل سوى مرة واحدة العام 1976 في ظل نظام الحزب الواحد فترة حكم الرئيس الراحل هواري بومدين. وتعززت البلاد بدستور جديد 1989 أفرزته أحداث 5 أكتوبر 1988، التي مهدّت للتعددية السياسية والإعلامية، تعرض هو الآخر للتعديل العام 1996 على يد السابق الامين زروال في أوّج الأزمة الأمنية الداخلية لمتطلبات المرحلة. ويعد بوتفليقة أكثر رؤساء الجزائر مبادرة لتعديل الدستور، فبعد وصوله للحكم عام 1999 إلى ترقية اللغة الأمازيغية إلى لغة وطنية في التعديل الدستوري الذي جرى في 2002 على خلفية أحداث الربيع البربري الأسود 2001 ثم لجأ إلى تعديل ثان العام 2008 أثار سخطا كبيرا تم ألغى تقييد العهدات الرئاسية (كانت عهدتين غير قابلتين للتجديد) في المادة ال 74 ليتمكن من الترشح لعهدة رئاسية ثالثة في ما ينتظر المراقبون ما سيسفر عنها لتعديل الثالث في فترة حكمه.
مشاركة :