أصبح السير والتنقل في الكثير من مدننا أمراً لا يطاق، بل وحارقاً للأعصاب؛ نتيجة الزحام الخانق الذي تشهده شوارع المدن، نظير الأعداد الهائلة من السيارات، والذي يأتي بسبب سوء تخطيط الشوارع، وعدم وجود نظام ثابت وحازم يوقف المخالفين. إن ما نشاهده من زحامات كبيرة في الشوارع وعلى الطرق الرئيسة يتطلب وجود نظام مروري حازم يفرض هيبة رجل المرور، وكذلك وجود تنظيم وتعليمات في الطرق تبين الإرشادات التي يجب الالتزام بها، وحقوق كل من المشاة والمركبات، أمّا اللجوء إلى أسلوب الحلول الوقتية غير المبنية على خطط مدروسة فإنه لن يفيد؛ لأنه مجرد مسكنات لأزمة تتزايد عاماً بعد عام، إضافةً إلى أهمية مراقبة رجل المرور تقيد أصحاب المركبات بالأنظمة المرورية، وعدم السماح بمخالفتها؛ لأن الملاحظ أن الكثير من أصحاب السيارات يخالفون الأنظمة بشكل سافر وفي وضح النهار بعد أن غاب رجل المرور عن التواجد الفعّال في الشارع. نظام وتنظيم وشدّد "د. أنور عشقي" -رئيس مركز الشرق الأوسط للدراسات الإستراتيجية- على ضرورة وجود نظام مروري يحكم السير في الشوارع ويفرض هيبة رجل المرور كما هو مشاهد في الدول الكبرى، مضيفاً أنه من المهم وجود تنظيم وتعليمات في الطرق تبين جميع الإرشادات التي يجب الالتزام بها، وحقوق كل من المشاة والمركبات، مبيناً أن من يدعي أن الشعب السعودي فوضوي فهو مخطئ؛ والدليل أن أبناءنا عندما يذهبون للخارج فهم أكثر من يلتزم بالأنظمة؛ لأن هناك تنظيما دقيقاً ونظاماً يفرض شخصيته القانونية والنظامية، ذاكراً أن شوارع مدننا يوجد بها دخلات كثيرة لكن لدى المرور لوائح تنظيمية يمكن من خلالها معالجة هذه العثرات، لافتاً إلى أنه لا توجد مدينة أسوأ من طوكيو في عشوائية الشوارع، لكنهم بالنظام والتنظيم عالجوا هذه المشكلة. أسباب الزحام وأرجع "د. عبدالرحيم بن حمود الزهراني" -جامعة الملك عبدالعزيز- أسباب الازدحام المروري بصفة عامة إلى عدة أسباب في مقدمتها تجاوز الحركة المرورية المستخدمة للطرق والتقاطعات الطاقة الاستيعابية، وكذلك وجود مشروعات أعمال إنشائية أو صيانة على شبكات الطرق مما يؤدي إلى تقليص عدد المسارات المستخدمة للحركة المرورية، إضافةً إلى إخفاق الجهة المنفذة للمشروع في إدارة الحركة المرورية في الموقع بطريقة احترافية ومهنية، إلى جانب ضعف إدارة الحركة المرورية لقصور من رجال المرور، أو لأسباب مرتبطة بأجهزة التحكم المروري كونها قديمة وغير مواكبة لأساليب التشغيل الحديثة، مبيناً أن الحركة في مدن المملكة تنمو بصفة مضطردة تبعاً للزيادة المستمرة في أعداد السكان وزيادة نسبة تملكهم المركبة الخاصة، وكذلك زيادة معدل الرحلات اليومية للسكان، بل إن المعلومات المؤكدة عن المدن الكبرى في المملكة تشير إلى أن نسبة النمو في الحركة المرورية أعلى بكثير من النسبة في الزيادة السكانية، وقد تصل إلى الضعف، مشيراً إلى أنه تمثل رحلات المدارس والعمل (60%) من مجموع الرحلات اليومية على شبكة الطرق، مما يعني أن وجود نقل عام ونقل مدرسي سيخفف بنسبة كبيرة من الازدحام، خاصةً في ساعات الذروة، مؤكداً على أن نسبة استخدام السيارة ما يقارب (90%) من إجمالي الرحلات. معهد متخصص وعن دور رجل المرور في هذه المشكلة التي تعاني منها مدننا، أوضح "د. الزهراني" أنه يبذل رجال المرور جهوداً مشكورة في متابعة القضية المرورية وتشعباتها المختلفة، مُشدداً على أهمية زيادة أعدادهم في جميع مدن المملكة، وكذلك إيجاد معهد متخصص شبيه بمعهد الجوازات، بحيث يدرّس فيه ما يتعلق بالمهام المطلوبة من رجال المرور، إضافةً إلى أنه من المهم تركيز جهد وأعمال رجال المرور في المتابعة الميدانية للحركة المرورية والحوادث المرورية، إلى جانب زيادة كثافة تواجدهم ميدانياً وإعادة الهيبة لهم، وكذلك زيادة كفاءة وقدرات أقسام النقل والمرور في الأمانات والبلديات من خلال زيادة أعداد المهندسين والمخططين المتخصصين، وتحسين أدائهم لتقديم دورات متخصصة في تخطيط وتصميم وتشغيل وصيانة مرافق وأجهزة الحركة المرورية في المدينة، مبيناً أن معالجة هذه المشكلة خلال بديلين أساسين الأول: متمثل في توفير وسائل نقل بديلة للسيارات الخاصة؛ مثل زيادة وسائط النقل العام وطاقاتها الاستيعابية، وكذلك زيادة الطاقة الاستيعابية للطرق والتقاطعات من خلال إنشاء مرافق جديدة، أو توسيع المرافق الحالية، مؤكداً على أن هذا البديل هو ما يركز عليه في الكثير من دول العالم، وهذا مأخوذ به في المدن الكبرى في المملكة حالياً، مشيراً إلى أن البديل الثاني هو تخفيف الطلب على وسائل النقل الخاصة، من خلال الحد من استخدام هذه الوسائط، خاصةً خلال ساعات الذروة. دراسات مستقبلية وحول الدراسات المرورية للشوارع ومدى العمل بها للحد من هذه المشكلة، أكد "د. الزهراني" على أن دراسات الأمانات هي موضع اهتمام من أصحاب القرار، وما يتم تنفيذه من مشروعات لتحسين الشوارع والتقاطعات هو نتاج دراسات مرورية، ونتيجة لهذه المشروعات برزت مواقع عديدة في بعض مدن المملكة ك"جدة" التي عانت ولازالت تعاني من الاختناقات المرورية، وقد يكون أحد الأسباب ضعف أو عدم وجود دراسات مهنية متخصصة تعنى بما يسمى بتحويل الحركة المرورية، تهدف إلى تخفيف الآثار الناجمة من تنفيذ جسور أو أنفاق للتقاطعات الرئيسة، مضيفاً أنه من القضايا المرتبطة بالدراسات، فإنه كما هو معلوم لا تزال المدن الرئيسة في المملكة في مرحلة نمو وانتشار، حيث تبلغ نسبة النمو السنوي في الحركة المرورية ما يزيد على (5%) في بعض مدن المملكة، وربما تصل أحياناً إلى (8%)، لذلك فإن هذه المدن لم تصل إلى الآن إلى مرحلة ما يسمى بالنضوج العمراني، ذاكراً أن دراسات التوقعات المستقبلية لأحجام الحركة المرورية تقدم تقديرات معينة يتم البناء عليها بإنشاء المرافق والطرق والشوارع والتقاطعات، وحينما تبتعد هذه التقديرات عن الواقع ينتج عن ذلك نقص في الطاقة الاستيعابية، مما يؤدي إلى بروز الاختناقات والازدحامات المرورية. حلول وقتية وقال "م. عبدالجبار الياس": إن التخطيط السليم لشبكة الطرق في المدن له دور كبير في انسيابية وسهولة الحركة المرورية، مضيفاً أنه لابد أن يكون لدى الأمانات مخطط هندسي عام شامل ومرن لطرق السيارات وأعدادها من عام إلى عام، وكذلك تطور المدينة والمناطق التي ستنتقل إليها الكثافة المرورية في المستقبل، على أن يكون المخطط الشامل للنقل العام متناسباً مع نمو المدن في الحاضر والمستقبل ويتواكب مع تمدد المدن ونموها، مضيفاً أن أسلوب الحلول الوقتية غير المبنية على خطط مدروسة لا يفيد؛ لأنه مجرد مسكنات لأزمة السير في مدننا التي تتزايد عاماً بعد عام، وهذا يتطلب وجود مهندسين في مجال الطرق والمرور، وهذا غير متوفر في أمانات مدننا بعدد كاف، مبيناً أنه لم يعد المطلوب من رجل المرور أن يقف تحت مظلة لينظم حركة السير ويقفل الإشارة ويفتحها؛ لأن هذه أمور أصبح التحكم فيها آلياً، لكن يجب عليه أن يكون متواجداً لمراقبة تقيد كل صاحب مركبة بالأنظمة المرورية، وعدم السماح بمخالفتها؛ لأن الملاحظ أن الكثير من أصحاب السيارات يخالفون الأنظمة بشكل سافر وفي وضح النهار بعد أن غاب رجل المرور عن التواجد الفاعل في الشارع. أهمية التنسيق وأوضح "م. سمير باصبرين" -رئيس لجنة مراقبة الأراضي وإزالة التعديات بجدة- أن ما نراه في مدننا من ازدحام مروري هو نتيجة كثرة المشروعات، وهذا يؤثر على انسياب الحركة المرورية بسبب كثرة التحويلات، وقفل بعض الشوارع، وتحويل الحركة من شارع إلى آخر، مضيفاً أنه لا يمكن الحكم على غياب أو حضور رجل المرور إلاَ بعد أن تكتمل منظومة هذه المشروعات، ويفترض أن يكون التنسيق بين المرور والأمانة على أعلى مستوى. ونفى العقيد "زيد الحمزي" -مدير العلاقات العامة بمرور محافظة جدة- أن يكون رجل المرور غائبا ولا يؤدي عمله كما ينبغي، مؤكداً على أن رجال المرور موجودون في كل موقع وتواجدهم على مدار ساعات اليوم، والدوريات المرورية لا تتوقف عن رصد الازدحام وضبط المخالفات، مضيفاً أن كثرة المشروعات التنموية أدى إلى "التحويلات" في شوارع المدينة، مؤكداً على أنهم يعملون بشكل مكثف في ساعات الذروة، ويتم منع الشاحنات من الدخول للشوارع في ساعات الذروة في (25) موقعا، مشيراً إلى أنه بالنسبة للمخالفات تحتاج بالدرجة الأولى إلى التزام قائدي المركبات بالنظام، وأن يكون لديهم رقابة ذاتية. كثرة المخالفات وأكد "حسن باعبدالله" على أن رجال المرور لا وجود لهم إلاّ في مواقع محددة على الشوارع الرئيسة، ومعظهم داخل سيارات المرور يراقبون الحركة عن بُعد، مضيفاً أن الملاحظ كثرة المخالفات، كقطع الإشارة، وعكس الاتجاه، والدخول من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار أو العكس، وكذلك وجود سيارات بدون لوحات، أو لوحة مطموسة، إضافةً إلى وجود سيارات خربة تملأ الشارع بالأدخنة الملوثة، وتسير ليلاً بدون وجود إضاءة خلفية، مبيناً أن كل هذه المخالفات نتيجة عدم وجود رجل المرور، وعدم وجود نظام رادع يمنع حدوثها، ولو حدث احتكاك بين سيارتين فإن الحركة في الطريق تتوقف انتظاراً لوصول رجل المرور، والذي لا يصل إلاّ بعد ساعات، مما جعل السير في شوارع مدننا مرهقاً للأعصاب والحواس، مشيراً إلى أن السير في أحد الشوارع لساعة يكشف لك عددا هائل من المخالفات، بل حتى الوافدون أصبحوا لا يحترمون النظام في الشارع؛ نتيجة غياب رجل المرور، ذاكراً أنهم لا يريدون رجل مرور داخل سيارته ليس له دور، أو جندياً يدور بدراجته بين السيارات دون أن يضع يده على مواقع الأخطاء ويوقف المستهتر، ويمنع فوضى أصحاب سيارات "الليموزين" والشاحنات من التلاعب بسلامة الناس.
مشاركة :