قطعت البشرية أشواطا طويلة لتهذب وتروّض ذلك المخلوق البدائي المتوحش الكامن في أعماقها، ومن أجل هذا انخرطت في حروب وصراعات مدمرة، للدفاع عن غنيمة أو أرض أو طرق تجارية تحت مظلة هوية مشتركة لكل جماعة، حتى باتت الهويات (عقائد - أعراق - لغة - خصائص تاريخية وجغرافية) هي قلاعا تتمترس خلفها الشعوب بمنأى عن الآخر المختلف، وأيضا تنتصر وتهزم، تقتل وتُقتل، تفنى وتُفنى.. من خلالها. وظلت مسيرة البشرية نحو العدالة ومملكة الإنسان على الأرض حلما لم ينجز.. مقتل ثلاثة من الطلبة المسلمين في جامعة شمال كارولينا في جريمة ذات خلفيات عنصرية، ستستطيع زحزحة البوصلة الإعلامية عن المسلمين كإرهابيين مهرقي دماء باتجاه حادثة الطلبة، لكن الواقع لن يتغير فما زالت قلاع الهويات التي تتمترس خلفها الشعوب تؤكد لنا أن رحلة الإنسانية باتجاه العدالة مابرحت طويلة ومكلفة، ومابرحت الجسور مقطعة والمعايير والموازين مصابة بالخلل، لأن أكبر مفارقة مؤسية ظهرت كانت أثناء المسيرة المليونية لتأبين ضحايا مجلة (شارلي ابيدو) الفرنسية، تلك المسيرة التي تصدرها السفاح الإسرائيلي نتنياهو ويداه تقطران بدم ضحايه، وفي سجون بلاده طفلة لايتجاوز عمرها 12 عاما (ملاك الخطيب)!! لكن لن يكون لديه فرص أكثر ملاءمة لغسل يديه بصخب الضجة الإعلامية ضد المسلمين. ومن أراد أن يغرز تهمة العنف الديني في جسد المسلمين فعليه أن يذكر أن الحروب الدينية لها وجه واحد دوما، على سبيل المثال أثناء الحملات الصليبية أبيد عشرات الآلاف ليس فقط من المسلمين بل من المسيحيين السريان أنفسهم أتباع الكنيسة الشرقية (والذين يختلفون بمسائل عقدية عن أتباع البابا في كنيسة روما) حيث تم تدمير قرى سريانية عن بكرة أبيها. وإن تربصنا بكتاب التاريخ وأردنا أن نستمطر أحداث التوحش والدموية سنمر على العصور المظلمة في أوروبا ومحاكم التفتيش ومجازر الهنود الحمر..القوائم طويلة والحروب الدينية تنين نهم ملتاث.. لا يشبع. لذا لا نملك رغم كل الخيبات سوى الاستجابة للحدس الذي يخبرنا أن هناك كوة ضوء، وأن الإنسان قد اكتشف وسط الركام صوت مولود ضئيل يناضل من أجل الحياة، وان البشرية بين حربين أعلنت الإعلان العالمي لحقوق الإنسان (حيث مادته الأولى تخبرنا يولد جميع الناس أحراراً متساوين في الكرامة والحقوق، وقد وهبوا عقلاً وضميراً وعليهم أن يعامل بعضهم بعضاً بروح الإخاء. بينما مادته الثانية لكل إنسان حق التمتع بكافة الحقوق والحريات الواردة في هذا الإعلان، دون أي تمييز، كالتمييز بسبب العنصر أو اللون أو الجنس أو اللغة أو الدين أو الرأي السياسي أو أي رأي آخر، أو الأصل الوطني أو الاجتماعي أو الثروة أو الميلاد أو أي وضع آخر، دون أية تفرقة بين الرجال والنساء. وفضلا عما تقدم فلن يكون هناك أي تمييز أساسه الوضع السياسي أو القانوني أو الدولي لبلد أو البقعة التي ينتمي إليها الفرد سواء أكان هذا البلد أو تلك البقعة مستقلا أم تحت الوصاية أم غير متمتع بالحكم الذاتي أم كانت سيادته خاضعة لأي قيد من القيود.) إذاً البشرية في وجهها المضيء استطاعت أن تؤسس لخطاب عالمي سلمي، يسعى إلى التعايش والتسامح واحترام المختلف، استطاعت أن تلوح للآخر بود..من خلف الأسوار والحواجز. البشرية رغم الظلمة استطاعت أن تسن قوانين تحمي منجزها الإنساني، وتحمي مكتسباتها في سبيل التمدن والتحضر..حتى بات مقياس المدنية والانخراط بالمجتمع العالمي يتم عبر حزمة من الأسئلة قد يكون منها: - ما كمية القوانين التي تجرم العنف الديني داخل دولة ما؟ - هل يتداخل العنف التحريضي مع الخطاب الديني والفكري لدولة ما بحيث يختزل علاقتها مع الآخر المختلف؟ - إلى أي حد يتشرب مجتمع ما قيم التسامح والتعايش، بحيث يسمح للمختلف أداء طقوسه وشعائره الدينية بكل اطمئنان داخل دور عباده خاصة به، بينما يقف ببابه رجل أمن يحميه؟ - إلى أي مدى تحرص دولة من الدول على نقاء مناهجها المدرسية من مادة الكراهية المحرضة والمشيطنة التي تشطر العالم إلى شطرين نحن والآخر، ضمن ثنائية الخير والشر؟ - إلى أي مدى تحترم دولة ما حقوق الأقليات والمهمشين؟ العنف والدموية هما مكون كامن في أعماق البشر، ولكن يصبح المقياس والمحك هنا إلى أي مدى تناهضه الدول، وتتصدى له، عبر الدساتير والقوانين والقيم التي ترسخ قيم العدالة والإنسانية والتعايش. لمراسلة الكاتب: oalkhamis@alriyadh.net
مشاركة :