حلم لم يُدنس - اميمة الخميس

  • 2/26/2014
  • 00:00
  • 4
  • 0
  • 0
news-picture

تخبرني سيدة فلسطينية مسنة تعيش في الخليج، بأنها حين تقص على أبنائها من الجيل الثالث وأحفادها من الجيل الرابع بعد النكبة، تفاصيل المأساة والرحيل والشتات، تشعر بأنها تنقل حكايات أناس غرباء يتوارون في إحدى زوايا الذاكرة، أسماء لأماكن وتواريخ وأشخاص بعيدين وغامضين، تقول بلوعة :- (لا أدري كيف اختفى وهج تلك اللوعة والجمرات التي كانت مخبأة تحت لساني، وفي زوايا حقائب المهجر، بحيث بات من الصعب أن استحضر روح المأساة، وأن أمررها لهم، لاسيما أن القضية نفسها قد تلاشت وغامت تفاصيلها في يومياتنا والجراح ضمرت خلف بلسم الوقت). وأعتقد أن جزءا كبيرا من حديث هذه السيدة صادق، فهناك حالة إنكار وتناس عامة لتلك المأساة ليس من العالم العربي فقط، بل من الشعب الفلسطيني نفسه، لذا هي تجهز دوما أبناءها للدراسة في الخارج برفقة حكمة الغرباء الشهيرة (العلم هو وطن الغرباء). بعد أن تحورت وتشوهت وسخطت قضيتهم وباتت حائط المبكى العربي الذي كلّ يعلق عليه بكائيته الخاصة وباللغة التي تعجبه سواء التيارات اليسارية أو الدينية، أو بيانات الجيوش الحاكمة في العالم العربي والتي كانت تثبت مسامير عروشها عبر خطاب تعبوي يمهد طريقا وهميا للقدس. بالطبع كلّ كان له وصفته وترياقه لكن أياً منها لم يكن يؤدي إلى فلسطين بينما كان الشارع العربي يلوح بالقضية الفلسطينية كقميص عثمان ونزيف الفتنة، إلى أن دخلت القضية في سرداب السلام والصلح الغامق الذي لم يفض إلى نهاية، بل إلى أوحال السياسة والتجاذبات والصراعات العربية والإقليمية والدولية ولم تخرج منها إلى الآن. والسيدة الفلسطينية صادقة، لو تابعنا الآن ولمدة أسبوع أيا من نشرات الأخبار العربية فإننا نادرا أن نجد خبرا يتعلق بالمأساة الفلسطينية، ومن النادر أن نجد برناجا تحليليا أو إخباريا يتحدث عنها ويستعيد تفاصيلها بعد أن حل بالوعي العربي الداء الاستهلاكي الذي دائما يبحث عن المثير والجديد، بعد أن تم استهلاك هذه القضية على امتداد سنين عبر مروجي الأيدلوجيات وتجار السلاح والخطب العصماء. وأمام هذا المشهد المعتم يبدو أن المكان الوحيد الذي ستظل فيه فلسطين كحلم طوباوي نقي وبعيد، هي أرض الفنون، كملحمة أحمد العربي التي كتبها محمود درويش ولحنها وغانها مارسيل خليفة، أو عبر الفن القصصي لغسان كنفاني، أو الفن الروائي لرضوى عاشور في روايتها (الطنطورية )، وهي الرواية التي تستحق أكثر من هذه الوقفة السريعة بين صفحاتها، كونها تمثل سفرا فلسطينيا، اختزل تاريخ النكبة الفلسطينية على امتداد سنواتها بقالب سردي استطاع أن ينجو من أمرين يتربصان عادة بالأدب النضالي (إذا صحت التسمية ): 1- النبرة الأيدلوجية المرتفعة. 2- الاستخفاف بالبعد الجمالي في العمل على اعتبار أن المحتوى الفكري هو الهدف والمرام. ذلكما المأزقان استطاعت (رضوى عاشور) أن تتجاوزهما في روايتها وتحتفي بالفلسطيني الإنساني واليومي الذي لايقترب من السياسة ولكن يعرف عقابيل آثارها الحادة عليه كشعب. المفارقة هنا أن الروائية رضوى عاشور هي مصرية، ولكنها تشربت الروح الفلسطينية حتى نخاع الجمجمة مزاجا وثقافة وفلكلورا، ولربما ارتباطها بالشاعر الفلسطيني مريد البرغوثي كان له دور كبير في إنتاج هذه الرواية الملحمية الثرية والموجعة في نفس الوقت، والتي تكثف داخلها المسار التاريخي للنكبة الفلسطينية ليس فقط الهجرات والمجازر بل أيضا الأمل والنضال والعشق .. دون أن ينطفئء وهجها في اعماقهم. ولئن كانت فلسطين قد خذلتها الذاكرة، وسخطتها السياسة وحولتها إلى مسخ عجيب، فإن الآداب والفنون أبقتا على نضارة ذلك الحلم البكر الذي لم يُدنس.

مشاركة :