تونس – اضطرت الحكومة التونسية أخيرا بعد أشهر من الشد والجذب إلى الرضوخ لضغوط الاتحاد العام التونسي للشغل، أكبر النقابات العمالية في البلاد، والموافقة على زيادة رواتب موظفي الدولة والقطاع العام. وبموجب الاتفاق المشترك خلال جلسة تفاوضية أمس سيحظى قرابة 670 ألف موظف بهذا الإجراء وستكون الحكومة مجبرة على تخصيص 1.2 مليار دينار (402 مليون دولار) إضافية لبند الرواتب في الميزانية الحالية على أن تكون الزيادة بأثر رجعي. واتفق الطرفان على أن تكون الزيادة على ثلاث مراحل، الأولى في مارس المقبل بنحو 90 دينارا (30 دولارا)، والثانية في يوليو القادم بنحو 40 دينارا (13.5 دولار) على أن تكون المرحلة الثالثة في يناير المقبل بنحو 50 دينارا (16.8 دولار). وتأتي هذه الخطوة بعد أشهر من الخلافات بين الطرفين مما دفع باتحاد الشغل لتنظيم إضراب عام الشهر الماضي هو الأكبر منذ 2011، شل حركة النقل البري والجوي وشهد خروج الآلاف للتظاهر على السياسات التقشفية للحكومة.ورمى الاتحاد بكرة الأجور الملتهبة إلى أحضان الحكومة طيلة الفترة الماضية محملا إياها أسباب تدهور القدرة الشرائية للمواطنين بشكل غير مسبوق. وأظهرت بيانات إحصائية حديثة، أن معدل التضخم السنوي هبط خلال الشهر الماضي إلى 7.1 بالمئة للمرة الأولى منذ عام بعد موجة ارتفاع مستمرة نتيجة تدهور سعر صرف الدينار بنحو 24 بالمئة مقارنة بما كان عليه في 2016، بحسب البنك المركزي، وتعطل إنتاج العديد من القطاعات الإستراتيجية. وأخذ مؤشر أسعار الاستهلاك منحى نزوليا مع نهاية العام الماضي ليبلغ حاجز 7.5 بالمئة بعد أن وصل إلى نحو 7.8 بالمئة في يونيو الماضي، وهو أعلى مستوى له منذ ثلاثة عقود تقريبا. وتلتهم فاتورة الأجور سنويا أكثر من ثلث الميزانية، فوفق وثيقة الميزانية الجديدة البالغ حجمها 15.4 مليار دولار ستذهب قرابة 5.8 مليار دولار إلى بند الرواتب، أي ما يعادل 15.5 بالمئة من الناتج المحلي الإجمالي، وتخطط الحكومة لخفضه إلى 12.5 بالمئة العام المقبل. وكان الاتحاد العام التونسي للشغل قد دعا بعد يومين من الاضراب العام الشهر الماضي إلى إضراب عام جديد كان يُفترض أن يتم نهاية الشهر الجاري ولمدة يومين للضغط أكثر على الحكومة لرفع أجور مئات الآلاف من الموظفين. وقال الأمين العام للاتحاد، نورالدين الطبوبي، خلال افتتاح أعمال الهيئة الإدارية الوطنية للاتحاد المنعقدة بمدينة الحمامات حينها إن ”المنظمة أدرى بمصلحة البلاد، وهي التي تدافع عن سيادتها وعن جميع التونسيين بمختلف أصنافهم، الشغالين والعاطلين عن العمل وجميع الفئات الأخرى”. وأضاف أن الاتحاد “سيواصل دفاعه عن منظوريه لتحسين قدرتهم الشرائية وضمان مستوى عيش كريم للتونسيين”. وأشار إلى أن الموظفين هم من يدفعون 75 بالمئة من حجم الضرائب، في الوقت الذي ترتفع فيه نسبة التهرب الضريبي والتهريب بشكل كبير دون مراقبة من الدولة. وفي ظل حقائق الأمر الواقع، ستجد الحكومة نفسها في وضع محرج للغاية نظرا إلى ضغوط صندوق النقد، الذي طالبها بتجميد الأجور لحين استعادة الميزانية عافيتها.وسبق لرئيس الحكومة يوسف الشاهد أن أكد في الكثير من المناسبات أن قدرات البلاد المالية لا تتحمل أي زيادات جديدة في الرواتب. ومن المرجح أن تؤثر هذه الخطوة على مراجعة صندوق النقد للأقساط المتبقية من قرض بقيمة 2.9 مليار دولار وافق على منحه لتونس مقابل إجراء إصلاحات اقتصادية قاسية. وفي نوفمبر الماضي كشف جهاد أزعور، مدير إدارة الشرق الأوسط وآسيا الوسطى في صندوق النقد، عن دراسة أجراها خبراء الصندوق تُظهر أن فاتورة أجور القطاع العام التونسي من بين الأعلى في العالم، بالنظر إلى حجم اقتصاد البلاد. ويعتقد الصندوق أن الإبقاء على فاتورة الرواتب تحت السيطرة سيساعد تونس في تجنب مشاكل خطيرة متعلقة بالدين العام الذي يبلغ قرابة 70 بالمئة إلى الناتج المحلي الإجمالي، فضلا عن كبح العجز في الميزانية. ويقول اقتصاديون إن التحكم في فاتورة الأجور بشكل أكبر سيسمح لتونس بتحقيق الأهداف المالية للعام 2019، وسيخفف الضغط الإضافي الذي ستفرضه زيادة الإنفاق على دافعي الضرائب. ورغم حاجة الحكومة إلى تعبئة موارد مالية إضافية لتغطية العجز وتوفير سيولة نقدية لتسيير شؤون الدولة، لكنها لم تفرض ضرائب على المواطنين وخفضت العبء الضريبي لبعض القطاعات منذ بداية 2019، بعد سنوات من زيادات ضريبية أثارت غضبا شعبيا وفي أحيان كثيرة احتجاجات عنيفة. ويشكك البعض في قدرة الحكومة على تخفيف الضغوط المتزايدة على المواطنين بعد أن بنت ميزانية 2019 على فرضيات تبدو غير واقعية ومؤشرات غير ثابتة، قد تعرقل كافة الجهود لإخراج البلاد من نفق الأزمات المتراكمة.
مشاركة :