بين الحين والآخر؛ يولّي الفلسطينيون وجوههم قِبل عواصم عربية، لحل أزمة تفرقهم ما بين حركتي «فتح» و»حماس». لكنهم هذه المرة اختاروا موسكو، لتستضيف جولات لحوارات ثنائية بين الحركتين، ويحدوهم الأمل بعقد اتفاق حاسم يُنهي حِقبة السنوات العجاف، وفي الوقت نفسه يتملكهم القلق من إخفاق يُضاف إلى سلسلة الإخفاقات السابقة. وتعتبر اتفاقية «أوسلو» مربط فرس في تاريخ اختلاف الرؤى بين الحركتين اللتيْن تؤمنان بتحرير فلسطين لكنهما تختلفان في الفكر والنهج. فـ»أوسلو» نصت في أحد بنودها على «نبذ منظمة التحرير الفلسطينية (طرف الاتفاق وتمثلها فتح) المقاومة المُسلّحة وتمنع أي مقاومة ضد إسرائيل، وأن تنتهج مبدأ المفاوضات ومسار التسوية السلمية». لكن هذا يتعارض تماماً مع «حماس» ومبادئها. ومنذ تشرين الأول (أكتوبر) الماضي، والحديث مستمر عن تعديلات جديدة أجرتها مصر على ورقة المصالحة الفلسطينية بين الحركتين، بعد فشل ورقتها الأولى في إحراز أي تقدّم أو اختراق في ملف المصالحة. وهدف تلك التعديلات هو خلق حالة من التقارب بين المتخاصمين، بعد خلاف عميق وطويل. وتلك التعديلات في حال توافقت عليها الفصائل الفلسطينية، قد تكون نقطة انطلاق جديدة للمصالحة. فمن بنودها عودة حكومة رامي الحمد الله، إلى قطاع غزة، وممارسة وزراء الحكومة مهامهم بشكل كامل في القطاع، من دون أي عقبات أو معيقات من أي طرف فلسطيني، وبشكل فوري. على أن تلتزم حكومة الحمد الله بصرف 50 في المئة من قيمة رواتب موظفي حركة «حماس» في قطاع غزة، وأن تُنهي اللجنة الإدارية، التي شُكّلت في 2017، لبحث أوضاع الموظفين، وتضع تصوّراً واضحاً لقضية الموظفين، التي تُعدّ من أكثر الملفّات تعقيداً من بين ملفات المصالحة. الواقع أن الأورق المصرية سبق أن جاء فيها تشكيل لجنة خاصة برئاسة قاضٍ فلسطيني مستقلّ، مهمتها الأساسية البحث في القوانين كافة التي صدرت عن حركة حماس في قطاع غزة طوال سنوات الانقسام الداخلي، والبحث بجدّية في هذه القوانين، ومعالجة كل التداعيات والتأثيرات التي ترتّبت عليها داخل المجتمع الفلسطيني. وينص بند آخر على إنهاء أزمة الأراضي الحكومية في قطاع غزة، وما جرى عليها من خلافات حول بيعها وتوزيعها على الموظفين، كذلك فـ»الأمن والسلاح» بند خاص في الأورق المصرية، حيث تقوم لجنة فلسطينية بإشراف مسؤولين مصريين لوضع تصوّرات واضحة وقابلة للتوافق والتنفيذ على الأرض للتعامل مع هذا الملف الشائك والمتشعّب، وإيجاد صيغة مشتركة لتعديل المنظّمة الأمنية بأكملها بما يتماشى مع القانون ومصالح المواطنين. إن الفرص بين «فتح» و»حماس» من أجل إتمام المصالحة وإزالة كل العقبات التي تعترض طريق الوحدة، غالباً ما تذهب أدراج الرياح، فالوسطاء يواصلون محاولاتهم رغم الخلافات والتوتّر الكبير بين الحركتين، والذي ظهر على الساحة أخيراً، فحتى اللحظة لا يوجد مخرج جدّي، والحالة الفلسطينية معقّدة وصعبة. على الجميع أن يتفهم أن الحوارات يجب أن تضمّن كل القضايا ذات الاهتمام المشترك المتعلّقة بالقضية الفلسطينية، والعلاقات الثنائية، والتطوّرات السياسية والراهنة والمتوقّعة. عليه يجب أن يتفهم هؤلاء أن القضية الفلسطينية تمر بمشاكل مستعصية، والأمور في بعضها وصلت لطريق مسدود، وحيث تشهد الساحة الفلسطينية حالة من الاحتقان المتصاعد بين الحركتين، تنعكس بإجراءات أمنية وسياسية، وتراشق إعلامي، يحمل اتهامات متبادلة بتعطيل المصالحة والمساهمة في إنجاح خطة «صفقة القرن» الأميركية، وتُفجر حالة الاحتقان هذه المزيد من الألغام في طريق تحقيق الوحدة الفلسطينية، كما تنذر باشعال فتيل توترات أمنية قد تدخل أراضي السلطة الفلسطينية في حالة متصاعدة من الفلتان الأمني. ليتذكر الجميع أنه على مدى سنوات و»فتح» و»حماس» تشغلان الشعب الفلسطيني بمشاكلهما البينية وتنشغل الحركتان بحوارات ونقاشات وسفريات بين عواصم عدة، ذلك بحثاً عن مصالحة ربما لا يريدها الطرفان. إلى درجة أن الشعب قد مل أخبار المصالحة وأخذ يقول إن شقاقهما أفضل للشعب من اتفاقهما، ولتذهب الفصائل إلى حيث ألقت. فالحقيقة المُرة هنا أنه ربما لا تعي «فتح وحماس» أن فلسطين محتلة. وهنا تحاول السياسة أن تفرض نفسها لتُبطل قوانين الرياضيات، فالخطان الفلسطينيان المتوازيان «حماس» و»فتح» اقتربا من اللقاء في نقطة الحل السياسي دون الإيديولوجية. وهو ما تُرجم في اتفاقيات المصالحة الأخيرة. إن التقارب بكل تأكيد يأتي في محاولة لرأب الصدع وتوحيد ثوب الوطن الفلسطيني الذي أبلاه الانقسام على مدار أكثر من عشر سنين عِجاف، لكنه في المقابل أبعد ما يكون عن الاتفاق في المبادئ والرؤى السياسية. فالإعلام في كل مرة يقوم بتضخيم أهمية لقاء طرفي النزاع الداخلي الفلسطيني، ويُمنّي الناس أن الوفاق قادم، وأن هذه المرة ليست كالمرات السابقة. وبعد حين يَزفُ الإعلام للناس بُشرى التوصل إلى اتفاق، وأن تنفيذ ما اتُفِقَ عليه قادم. يتفاءل الناس ويرتاحون ويظنون أن خيراً ما قادم على فلسطين، وأن الغيب حلو.. لتكون الصدمة بواقع مر. من موسكو كان الجديد، فحركة المقاومة الإسلامية حماس تلقت دعوة لزيارة موسكو في بداية شهر شباط (فبراير)، فقد سلمت للحركة دعوة معهد الدراسات الشرقية التابع لوزارة الخارجية. فالمعهد سلم دعوات لعدد من الفصائل الفلسطينية التي التقت في العام الماضي بموسكو للبحث في ملفات عديدة، وفِي مقدمتها الوضع الفلسطيني الداخلي، وإمكان إنجاز المصالحة وإنهاء الانقسام. نعم رحبت حركة حماس من جهتها بالدعوة، وتتطلع إلى استغلال هذه الفرصة المهمة لإعادة ترتيب البيت الفلسطيني، وتحقيق الوحدة وإنهاء الانقسام، استناداً إلى ما تم التوافق عليه سابقاً بين فصائل العمل الوطني. سفير دولة فلسطين لدى روسيا عبد الحفيظ نوفل، كان قد أعلن في وقت سابق أن موسكو ستستضيف حواراً فلسطينياً بمشاركة جميع الفصائل الفلسطينية يومي 13 و14 شباط (فبراير) المقبل. هي أحداث جديدة، وهنا يحمل اللقاء أهمية كبيرة في ظل الظروف التي تعصف بالقضية الفلسطينية كصفقة القرن وظروف اقتصادية واجتماعية صعبة في قطاع غزة والاعتراف الأمريكي بالقدس عاصمة لإسرائيل ونقل سفارتها إليها. كذلك يبقى أن يوم الشهيد الفلسطيني، كان مناسبةً وطنيةً جامعةً كي يتحد فيها الفلسطينيون في وجه الاحتلال وأميركا.. لكن مر دون أدنى ذكرى للشهيد. رغم ذلك فالضفة والقطاع ثغرا فلسطين الباسم, وقلبه النابض ومصدر عزيمته, الذي يغذيه على مر السنين. فهل تكون المصالحة في موسكو؟ * كاتبة مصرية.
مشاركة :