الأمن البحري.. مقاربة في المفاهيم والمرئيات (2-3)

  • 2/11/2019
  • 00:00
  • 7
  • 0
  • 0
news-picture

تتعدد التهديدات الأمنية البحرية غير العسكرية كالجريمة المنظمة مثل تهريب المخدرات والسلع والاتجار بالبشر، والهجرة غير المشروعة، ورمي ودفن مخلفات إنتاج أسلحة الدمار الشامل في البحر، والسطو المسلح (القرصنة) على السفن حيث تعد هدفا سهلا للهجمات الإرهابية، كما يمكن أن تستخدم كملاذ وملجأ لهجمات على سفن أخرى أو موانئ محددة. ولبيان خطورة هذه الأعمال وآثارها الاقتصادية فإن تمكن مجموعة إرهابية صغيرة من اختطاف سفينة شحن كبيرة أو ناقلة نفط والإبحار فيها إلى أحد المضايق أو طرق المواصلات البحرية المزدحمة وسكب شحنتها في مياه البحر أو تفجيرها واشعال النار فيها، فإن ذلك سينجم عنه آثار اقتصادية وبيئية وخيمة كزيادة مفاجئة في أسعار النفط وارتفاع في تكاليف الشحن والتأمين البحري وازدحام في الممرات البحرية البديلة، وإحداث تلوث في البحر قد يمتد إلى الموانئ القريبة منه، فضلا عما يسببه من نفوق للثروة السمكية والأحياء البحرية الأخرى، ما يتطلب تكاليف باهظة لتنظيفها منه. ومن هذا المثال البسيط يتضح البعدين الاقتصادي والبيئي للأمن البحري. إن مواجهة هذه التهديدات تعد واحدا من المهام الأساسية للقوات البحرية وخفر السواحل علاوة على مهامها الأخرى كتأمين الحدود البحرية للدولة، وتطهير وتأمين الممرات المؤدية من وإلى موانئها، ورفع العلم الوطني في المياه الدولية وفي الموانئ، وحماية خطوط المواصلات البحرية من الأعمال العدوانية كزرع الألغام البحرية، وحماية سواحلها ومناطقها الصناعية واللوجستية البحرية، وموانئها سواء كانت موانئ ساحلية أو موانئ صناعية عائمة في البحر من أعمال التسلل والتخريب، فضلا عن حماية سفن القصف الساحلي من التهديدات السطحية والجوية وتحت السطحية، والقيام بمشاغلة القوات المعادية والتصدي لها أثناء الحرب، كما تعمل على تعزيز وإسناد إمداد القوات المشتركة في أي صراع مسلح وراء البحار، بالإضافة إلى مراقبتها لحركة السفن، ولزوارق الصيد البحري، والتأكد من التزامها بالمعاهدات والمواثيق المنظمة لأعمالها، وتأمين التجارة الخارجية للدولة عبر البحر، وحماية المصالح والمنشآت الاقتصادية في عرض البحر عموما. وتقوم أيضا بتقديم المساعدة للسلطات الحكومية المدنية في عمليات الإخلاء والإنقاذ، أثناء الكوارث سواء كانت طبيعية كالأعاصير البحرية أو ناجمة عن التخريب والعدوان. هذه الأعمال والمهام ذات الطابع العسكري والأمني من حيث متطلباتها سواء ما يتصل بالتعليم والتدريب والإعداد العسكري المسبق، والقدرة الفائقة على تحمل المشاق، أو من حيث التجهيز بالمعدات العسكرية والأسلحة ووسائط النقل البحرية المتخصصة والمعدة لمواجهة القتالات البحرية، متطلباتها وتجهيزاتها ونتائجها وثمارها تنعكس إيجابا على الاقتصاد الوطني، بل تؤسس لاقتصاد بحري متين، يسهم بفاعلية في تحقيق التنمية الاقتصادية الوطنية المستدامة، التي هي جوهر الأمن الاقتصادي للدولة والمجتمع. إذ إنها تقود إلى توطين صناعات السفن والخدمات اللوجستية البحرية ، وتوطين صناعات العتاد والأسلحة والتجهيزات البحرية، فضلا عن إنشاء المدارس والمراكز والمعاهد المهنية البحرية، وتأسيس كليات وأكاديميات متخصصة في تخريج الضباط والمهندسين والمرشدين البحريين. وحينما يستتب الأمن البحري للدولة المطلة على البحر تشيع بيئة مواتية لتحفيز السياحة البحرية وتنظيم الرياضات البحرية، وتتيح التوسع والنمو للصيد البحري، والمحميات البحرية، والتجارة والنقل البحري، ولإنشاء المزيد من الموانئ والمناطق الصناعية والخدمات اللوجستية البحرية، بما يؤدي إلى المزيد من فرص العمل والتشغيل واجتثاث البطالة، لا سيما أن القطاع البحري بشكل عام من القطاعات كثيفة العمالة. وهذا ما يبرهن مرة أخرى على صحة اعتبار الأمن البحري أمنا اقتصاديا لمجمل الاقتصاد الوطني، خاصة أن استراتيجية الأمن الاقتصادي لأي دولة في العصر الراهن لا بد أن تقوم على توفير البيئة المناسبة للاستثمار والتنمية وتوسيع فرص العمل وتيسير سبل التقدم والرفاهية وتقليص الانكشاف ومنع التهديد الاقتصادي وتعظيم التنافسية وتعزيز القدرة الاقتصادية‏ للمجتمع، ومقاومة وتحدي التداعيات السلبية للأزمات الاقتصادية الخارجية، والارتقاء بالتصنيع وامتطاء صهوة اقتصاد المعرفة وتحقيق نقلة نوعية في إنتاج السلع والخدمات ذات القيمة المضافة المرتفعة والمحتوى التقني المميز. وتعزيز بناء القدرات العلمية والتقنية لزيادة الوزن النسبي للاقتصاد الوطني إقليميا وعالميا، وتوفير مقومات اقتصاد يعتمد الابتكار بأولوية وأهمية قصوى وبمنهجية علمية هادفة إلى خلق مزايا تنافسية معززة لدور الدولة وجعلها أكثر تأثيرا في صنع القرار الاقتصادي العالمي، وهذه المزايا يمكن تحقيقها بل إنها متحققة بأفضل صورها في الاقتصاد البحري. أما التحدي الرئيسي الذي يواجه أغلب دول العالم لتحقيق الأمن الاقتصادي الوطني بما فيه الأمن الاقتصادي البحري، فإنه يتمثل في فجوات الموارد المالية والمعرفية والتكنولوجية والبشرية‏. وتوجد استثناءات فيما يتعلق بأهمية الموارد المالية، فهناك عدة دول متقدمة لا تمتلك كثيرا من الثروات والموارد الطبيعية التي تؤهلها للتقدم والتفوق ومن ثم المحافظة على أمنها الاقتصادي وإنما اعتمادها على الإنسان المؤهل والمنتج، والذي وفرت له البيئة المناسبة للإبداع في مختلف الظروف، فمثل القاعدة الأكثر رسوخا لأمنها الاقتصادي. وفي المقابل هناك دول غنية بمواردها الاقتصادية ولكنها تعيش حالة من التخبط والتخلف الاقتصادي بسبب ضعف دور المواطن فيها وركونه إلى الكسل والاعتماد على الغير في استغلال الموارد المادية والمالية المتاحة، وعدم توفير الدولة للبيئة المحفزة للنهوض الداخلي والقائمة على تعزيز ثقافة التفكير والبحث والتحليل، لذا فإن أمنها الاقتصادي لا يقوى على مواجهة الأزمات والاختلالات الاقتصادية التي تعصف بالعالم من جهة، ومن جهة أخرى، فإن مصيرها العزلة والتهميش والإقصاء عن ركب التطور العالمي، وتمسي غير قادرة على مواكبة واستيعاب متطلبات المستجدات الاقتصادية والتقنية والأمنية المعاصرة التي تتميز بالسرعة والدقة والعمق وتنطلق من استراتيجيات تنافسية غير تقليدية للتفوق والابتكار، الأمر الذي يحتم أن تتلاحم الدول ومجتمعاتها وقطاعاتها الاقتصادية المتعددة لمواكبة هذا التطور والعمل على توطين حلقات منظومة اقتصاد المعرفة التي تعد وقود الحاضر وليس المستقبل المنظور فحسب، وطاقته ومحرك التنمية ومعيار التقدم، وذلك بدءًا بإعداد وتأهيل الموارد البشرية ومرورا بتشريع الأنظمة والقوانين وإنشاء أنماط جديدة من المؤسسات الراعية والمحفزة مثل موانئ وحاضنات التكنولوجيا البحرية وحدائق المعرفة، والكليات الهندسية والبحرية والمعاهد المهنية التخصصية، وصولا إلى إرساء البنى التحتية المادية الضرورية لاقتصاد المعرفة في مختلف قطاعات الاقتصاد والمجتمع، وعد ذلك وسيلتها الحتمية لتحقيق الأمن الاقتصادي المستدام القائم على التنوع في مصادر الدخل، والعادل والمتكافئ في توزيعه بين شرائح المجتمع. إن الدول التي حققت نجاحات مميزة في أمنها الاقتصادي بهذه الرؤية تمكنت من توطيد أمنها الوطني العسكري سواء كان أمنا بريا أو بحريا أو جويا فضلا عن تعزيز استقرارها السياسي والاجتماعي، وأصبح من أهم مخرجات استراتيجيتها الاقتصادية تحقيق الأمن الوطني المستدام وتوفير متطلباته التقنية من صناعات عسكرية وأخرى مزدوجة الاستخدام كصناعة السفن والمنصات البحرية، علاوة على أن ارتقاءها بالإنسان المواطن فكرا، وباحتياجاته ممارسة، جعل منه الأداة الأهم في حماية الأمن الوطني، والسلاح الأقوى لوقاية الوطن من الاختراق والتدنيس، فالتأثير متبادل ومتداخل وارتدادي بين الأمن الوطني بكل قطاعاته والأمن الاقتصادي بكل مستوياته. * أكاديمي وخبير اقتصادي.

مشاركة :