أغمضت عينيها لتداري ضوء الشمس الساطع كسهم اخترق فراغات الأغصان الصغيرة التي ستُقطع يوماً ما، ليستمر كل شيء في النمو. إنه فعل الريح البعيدة، قالتها وهي تنظر إلى سماءٍ صافية، متكئة على جذع الحياة، تتأمل خطوات المارين على عتبة أقدار اللحظة. لم تسأل مباشرة، ولكنها عقدت حاجبيها استعداداً: من منهم يا تُرى سيلحظ، لحمة قدمي اليسرى بين تلك الجذور الممتدة في الأرض، إني ألتصق تماماً، وثمة جزءٌ وجوديٌ مني، مدفون، مرهون، محفوف بكل تلك الحرارة الرملية، والحصى المكدس على أطرافي، ما هذه الغرابة المفرطة، هل أنا جِنيّة؟ لم أسمع يوماً عن نصف إنسان ونصف نبات، إنها المرة الأولى وربما الأخيرة. حسناً.. بدأتُ أفقد صوابي، لا يمكن ذلك، جِنّية ماذا؟! إنني فقط امتداد لتجاوز خَلقي بسيط، وسأستعيد أدراجي في أن أختار بين إنسانيتي ومدى «نباتيتي»! والقوة في أن أترك الطبيعة تقرر ذلك، حسناً.. ما هي الطبيعة؟! يا شجرة ما.. أتسمعينني، إنني هنا مقيدة فيكِ تماماً، ألا تدركين ذلك فعلاً، ألا يمكنكِ إجابتي على الأقل.. كل يوم أعيد لكِ نفس الموال، ولا أسمع سوى أنكِ تهتزين مع نسمات الفصول، من أين لكِ كل هذا الهدوء، برغم مفاتن الضخامة في كل فروعك الورقية، أتعجبُ من صمتك، أخبريني: من أنا، وما أكون عليه، من بمقدوره أن يفك كل تلك التعويذات الجامحة فيَّ، كيف لي أن أولي بكل تلك الرغبات، وشريان الحياة متصلٌ بكِ، فيزيائياً مادياً (جسدياً) سمِّه ما شئتِ، ولكنني أشعر أحياناً بما هو أكبر، سرٌ دفين، لا يمكن اكتشافه إلا عبر تجربة المضي نحوه، الطريق، نعم الطريق إليكِ.. هل يمكن على أقل تقدير أن تعرفيني عليكِ، من أي شيء خُلقتِ يا شجرة الـ .. *** استمرت تتحدث إلى نفسها، أعواماً متتالية، ولم تستجب لها الطبيعة، ولم تجب عن أسئلتها شجرة واحدة، أو حتى نصف شجيرة، ربما لأن كل شيء يحتاج إلى وقت، زمن بعينه، لتبدأ الأشياء بالحديث والتجليّ، وإلا لمَ كل هذا التحذير المتتالي لتجنب الانتظار، لم يبق كاتب ولا مسرحي ولا فنان ولا موسيقي لم يتوجس من الانتظار، محولاً كل هذا الخوف إلى هالة من الشعر والروايات والأحلام والأغاني، أشهرهم الشاعر تشارلز بوكوفسكي، عندما قال في قصيدته: «إذا أردت المحاولة، اذهب إلى كل الطرق، وإلا لا تحاول البتة»، وهو نفسه بوكوفسكي، الذي أعجب برواية «أسأل الغبار» لجون فانتي، ومغامرة أرتورو بانديني، مقدماً ملحمة لكل أوجه الانتظار عبر تلاشيه في قصصه، وربما هذا ما أرادته من أطلقت على نفسها في لحظة عابرة «الجنّية».. احتاجت إلى ذاكرة، إلى قصة تضفي معنى، لحضورها هنا، لا أن تكون مجرد كائن إنساني نباتي، يتوسل من استطاع إليه سبيلاً، ليتحرر من نفسه. دائماً ما يكون العبور نحو الرواية صعباً غير معبد وشبه طويل، فيا تُرى ما الذي يمكنه أن يغير الأحداث، ويصنع دهشة عرضية، يقلب ميزان الحكاية.. ويستنطق الحجر والشجر والعباد. والبداية ستكون بالسؤال عن ذلك التحول الجزء، الوعي الذي قرر الانبثاق من ورقة خضراء إلى طفلة صغيرة تملك عقلاً يستعرض كل قواه لإثراء تراكم المشاعر التي بطبيعتها ستنتج سلوكاً يستجيب للحياة.. وأول شعور تصدت له الجنّية هو سر علاقتها بالشجرة التي لا تعرف حتى اسمها. *** رجلٌ طويل القامة يتقدم باتجاه الشجرة الضخمة، ويبدأ -في تدرج بسيط- بتقطيع الغصن الصغير، كحلاق ينتف خصلات الشعر الزائدة في الجهة السفلية من ذقن وجهٍ مستدير. يتمتم بتراتيل صغيرة، بخفة تفوق خفة راهب يتلو صلواته في صدى كهوف الجبال، وكلما قلم الأغصان سقطت غيمة من أزهار لها ثمار ذات قرون أسطوانية مستقيمة تتشكل عبر التواء قليل، لونها أصفر يصل إلى حدود اللون البني المحمر، أسمع الرجل يحدث نفسه: «سقط الحنبل، سقط»، لا أحد في هذا الانشغال سوى رجل يهندم شجرة، وجنيّة صامته تَعِبة، والسؤال عن معنى «الحنبل»* غير مجدٍ، إلا أن خطأً فادحاً ارتكبه الرجل، في سهو، استنهض الشجرة من مراقب لكل التحولات التي تحدث في ما حولها، إلى صاحب فعل على الأرض، لقد قطع الرجل حالات الإزهار الجديدة في الشجرة، ما جعلها تنهض كموجة صارخة إلى علو يقارب الـ12 متراً أو أقل بقليل، وتعاود الانخفاض حتى تلامس الأرض، الفتاة الجنية ترتجف بأنفاس تتجاوز الـ100 نبضة قلب في الدقيقة الواحدة، تصرخ: ما الذي دهاكِ يا شجرة؟! ولأول مرة وبقوة كونية جديرة بالدهشة، تقول: أنا شجرة الغاف، خُلقنا قبل النور والضوء، فالأخير أتى لا لينير الطريق، بل ليستفز كل تلك الظلال الخامدة فيكم، وها هم أطفالي يسقطون، بعد أن وصلوا إلى عتبة الـ«نشوة».. إنه الإزهار. أغمضت عينها شجرة الغاف، واستمرت في الميلان يمنةً ويسرة، دون ريح قوية تهزها، حتى سقط الرجل.. سألت الجنيّة في لحظة «اغتبان»، لمَ كل هذا الاستنفار من أجل ثمار ستعود للطلوع مجدداً، لكونها تتألم أيضاً نتيجة الالتحام مع كل رحيل ضمني لشجرة الغاف؟ *** أفتح فمي مستغربةً سبب نهوض شجرة الغاف، وجرأة الجنّية، إلا أن «الإزهار» له إيقاع استثنائي لا يمكن إدراكه، شبيه بقصيدة فاتنة، للشاعر الصيني شي تشوان، تغنى فيها: «أن تزهر يعني أن تتحرر، يعني الثورة، إن ولادة كون لا تبدأ بانفجار، بل بإزهار»، وفي نفس القصيدة قال: «أما أن تتفتح أزهارٌ برية أو أزهارٌ بغيضة، بلا سببٍ أو منطق، فهذا مثلُ صحراءٍ شاسعةٍ ينهمرُ فيها المطر غزيراً». وفي مواجهة أولى من شجرة الغاف الناظرة للأسفل بجموح، بينما ترفع الجنية رأسها بسمو.. عمَّ المكان السكون، إلا من أصوات صغار العصافير في أعشاشها المستقرة بين أوراق وأغصان شجرة الغاف، التي يختلف حجم أوراقها، اعتماداً على حجم الماء، الذي ترتوي منه. وعلى حين غفلة، كسرت الجنّية صمتها: أكنت أحتاج كل تلك السنوات لأسمعكِ تصدعين بحثاً عن ثمارك وأزهارك التي تولد في موسمين، ولا خوف عليها، أما أنا فإني أهيم استرجاء لمعنى أن أكون هنا تحت رحمة جذورك، ولا حياة لمن تنادي. ابتسامة غليظة ارتسمت على وجه شجرة الغاف، الشق الوجودي المعهود، واسترسلت: متى ستعرفين أنكِ لستِ جنّية، أنتِ روح الأجنة، وهذا الجسد ما هو إلا وعي يجسد ذاكرة أناس المكان، والطبيعة الأم، أنتِ امتدادي.. تحت هذه الظلال، شهدتُ أسمى قُبلات للعاشقين، وحفظت أغاني أهلكِ العابرين، هنا.. هنا (مكان ما) تقفين، سقط الأطفال فَرحاً، واحتموا بي، وللأسف شهدت أيضاً خلافات وفروقات البشر على مال وزاد وأرض، متى يعلم الإنسان بأنه لا يملك شيئاً، حتى نفسه التي هي نفسه، هدية ممزوجة بلذة اللحظة، قد يفقدها في تلويحة ساخرة! *** هطل المطر، وشجرة الغاف لم تتوقف أبداً عن الحديث، وتأملت حوارها السرمدي مع الجنّية: لمَ تودين أن تكوني اسماً ولوناً وشكلاً؟ تجاوزي هنا كل شيء، ابحثي عنّي في ذاتك العميقة، لابد أننا، كنّا شيئاً واحداً، نما تدريجياً نحو التطور والنضج. تطلبين انفصالاً ودياً من حالة الجنّية كما أطلقتِ عليها، وأنا أراه انقطاعاً سيؤدي بكِ إلى صراع، ستفتشين عن الذاكرة، ومن ثم ستصادرين كل تجاربك فيها، وستحاولين التملص، مثل لصٍ هارب. أرجوكِ ولو لمرة واحدة، اكتشفي ذلك الالتحام بيني وبين ساقكِ اليسرى، ودعيه يتلاشى منكِ دون إرغامه على الانفكاك. لا يجب أن تُقطع تلك الجذور، وإلا لمن ستتركين كل تلك الظلال؟! التلاشي يختلف عن الانفكاك، الأول يوجب حضور الأشياء بحرية، والثاني يقيد الأشياء بادعاء الحرية. سأقولها مثل حكايا الأطفال: كان يا مكان، كان أناس يعيشون تحت ظلالي أنا شجرة الغاف، في الصحارى وبين صخور الجبال، بالقرب من الساحل، أو بين «الفرجان».. منهم من رسموا عهوداً على جذوعي التي طُعنتُ فيها آلاف المرات، ولم تسقط مني وقتها دمعة واحدة، على العكس، كنت أراها نحتاً داخلياً، ممراً لنهر الحياة التي ما إن تعقدها أجواء المدينة حتى يلجأ أُناسها إليّ، أحفظ روائح الأطعمة، التي تغلفها بقوة، نكهة القهوة، صحيح.. لم أكن ظلالهم وكفى، بل نارهم التي أحرقت نفسي فيها، وبيوتهم التي بنيت بعروقي، شيّدوا خيامهم على أوتادي، وأنا «أهف» عليهم ببرودة الهواء النقي، هم يعلمون بأني أصيلة في عطائي، يأخذون جذوري لأي مكان، وبمجرد أن تتنفس الهواء، تكبر وتتمدد، أعيد توازن التربة «رحم البذرة»، وأصبر على ندرة الماء، وهم يشبهونني، لا أدري إن غيرتهم المدينة، ولكنها بالتأكيد لا تستطيع مجاراتي، أنا أصل التكوين.. الشهيق البدائي. *** «أريد أن أكون شعوراً كاملاً لأُناسي».. تغلبت منطقية الرد لدى الجنّية، أمام الشعورية الخالصة لدى شجرة الغاف.. بالنسبة لي، بدت مصارحة تامة، فمن بمقدوره أن يعزل الرغبة تماماً، أليست الرغبة هي نفسها التي جعلت من أحد أغصان شجرة نصف إنسان؟! ولكن من أخبرنا بأننا فعلاً «ما نتجسد عليه». أن تكون شجرة غاف، ليس أن تكون شجرة بعينها، ولكن أن تعيش بوعي هذه الشجرة فيك، أليس كذلك؟! هناك حلقة مفقودة في الصراع بين البَيْنَيْـن، لأن الجنّية تعتقد بأن إمكانية أن تكون ذاتها، أمر يجعل منها محدودة، منفصلة تماماً عن مصدر الحياة الذي تمتلكه شجرة الغاف بالتأكيد، والاتصال البديع مع الكون والوجود. حل الليل، بعد يوم طويل، ذهب فيه الرجل طويل القامة، بإصابة في ظهره، نتيجة سقوطه المباغت من فوق شجرة الغاف، ولم تستطع الجنّية أن تغفو وتنام كعادتها، ما جعلها تتأمل مشهداً سرمدياً للنجوم، وتفكر: يا تُرى كيف أستطيع أن أقطع حدة الالتحام بيني وبين شجرة الغاف، دون أن أؤذيها، استنفر الجانب الإنساني في الجنّية أسئلة: يا ترى ماذا تخبئ لنا الصباحات، وما الذي ستقدم عليه الجنّية، بإصرارها، على الارتحال؟ *** إلى إشراقة اليوم الأخير، بعد نضوج سنوات، من البحث والتريث، توصلت الجنّية إلى أن هناك طريقة واحدة للذهاب، وهي المرور عبر جذور شجرة الغاف التي تمتد تقريباً على مدى 30 متراً، سعياً منها للوصول إلى المياه الجوفية. أدركت الجنّية أن الطريق هو بالذهاب إلى الداخل، إلى العمق، إلى الدرجات السفلية العميقة، الثرية، والمليئة بكل التجارب الإنسانية. التعرف إلى تلك الإسقاطات البدهية، والتقرب لمعنى أن يكون للإنسان هوية شيء يتشكل مع الوقت، فهذا الإنسان في الحياة المعاصرة أصبح دعوة خاطفة لا تعير للأشياء الانتباه والملاحظة.. السرعة في كل شيء تلهيك عن تأمل زهرة أو القبول بالجلوس بجانب شجرة، خاصة «الغاف» التي ستبقى مرجعاً حسياً لا يستهان به لملامسة حياتنا وتفاصيلها التي شكلت الوعي النهائي اللامحدود.. والخالد. ............................... * ثمار شجرة الغاف، يطلق عليها باللهجة العامية «الحنبل».
مشاركة :