الوضع الاقتصادي والمالي الاستثنائي الذي بدأنا نعيش على إيقاعه، والذي يتوقع أن يستمر لأربع سنوات، وهي الفترة المطلوبة لتحقيق هدف التوازن المالي، هذا الوضع يحتاج بلا شك إلى تكاتف جهود الجميع لتحقيقه، إذا ما توافرت القناعة التامة بأهميته، من ناحية، والإدراك الكامل بضرورة تحمل الإجراءات المطلوبة لتحقيقه مرحليا على الأقل. وبغض النظر عن المطلوب آنيًا من قدرة على التحمل، فلا شك أن مثل هذا الأمر - لكي يتحقق على المدى البعيد - يحتاج إلى نشر ثقافة جديدة لم يكن المواطن معتادًا عليها، تقوم على أساس القبول بالتحول - في مجال الخدمات العامة - من مسؤولية الدولة فقط إلى مسؤولية دولة ومجتمع في ذات الوقت. أي تقاسم المسؤولية والتكاليف المطلوبة لتشغيل وإدارة المرفق العمومي. وهو أمر ليس بالسهل، ويحتاج إلى جهد كبير من أجل الوصول إليه ولو بعد حين. وبقدر أهمية مثل هذا التكاتف الوطني والاستعداد لتحمل العبء الإضافي وحتى الانتقاص من بعض الامتيازات القائمة في مجالات الخدمات العامة، وبوجه خاص الصحة والتعليم والإسكان، بقدر ما يحتاج الأمر إلى التأكيد على عنصرين في غاية الأهمية في تقديري: - العنصر الأول: الحاجة الماسة إلى بناء وتعزيز وتطوير القدرة الاتصالية المناسبة التي تفرضها الأوضاع المستجدة والتحديات الحالية والمستقبلية، خاصة وأننا ما نزال في بداية الطريق لاتخاذ العديد من الخطوات المرتبطة بتصحيح الوضع المالي. لأن ما نراه حاليًا من جهود مقدرة لا يبدو كافيًا ولا فعالاً من وجهة نظري؛ لأنه لا يتناسب مع حجم التحديات والمشكلات. فبالإضافة إلى موضوع القيمة المضافة الذي أثار بعض اللغط وحتى البلبلة في بعض الأحيان، فهنالك موضوع قانون الضمان الصحي وتطبيقاته المنتطرة وآثاره المحتملة، وهنالك ملف تصحيح وضعية صناديق التقاعد، وإعادة هيكلة الوزارات من أجل تجديد طاقة الموارد البشرية والتقليل من حجمها ومواكبة التطور في أساليب العمل لرفع مستوى الأداء العام للوزارات. ومن هنا فإن أول خطوات تعظيم إمكانيات والقدرات القوة البشرية، قد تبدأ بإعادة النظر في البنية التنظيمية ومراجعة المهام الوظيفية وفقا للمستجدات والمهارات المطلوبة من كل وظيفة. بالأخذ (بالاعتبار التكاملي) في كثير من الأحيان بين وظائف، وما قد ينجم عن ذلك كله من إشكالات متوقعة، بل ويجب توقعها والاستعداد لمواجهتها. ولأن مثل هذه الملفات وما قد ينتج عنها من إشكاليات غير معتادة، بالإضافة إلى تزامنها مع بعضها البعض، وما قد يترتب عليها من إشكاليات قد تكون كبيرة وغير اعتيادية (مثل تفاقم البطالة وتقلص فرص العمل في القطاع الحكومي - الضغط على الدخول - ارتفاع أسعار الخدمات...)، تحتاج جميعها إلى ماكنة إعلامية قادرة على استقطاب الكفاءات في جولات مفتوحة من النقاش والحوار الحر والموضوعي، على أن لا يكون هذا الحوار من النوع الأحادي الجانب، بل المطلوب فتح هذه الملفات للنقاش العام. ومن المؤكد أن الحكومة بإمكانها أن تسجل نقاطا عديدة في هذا المجال، لأنها تمتلك الأوراق التي تعزز عملية إقناع الجمهور الذي من المرجح أنه سوف يتفهم الصعوبات التي بدأت تتضح صورتها، والحاجة الماسة والعاجلة لمواجهتها الآن وفورا ومن دون إبطاء، قبل أن تصبح المعالجة غير ممكنة أو متأخرة. - العنصر الثاني: الحاجة الماسة إلى التدرج في اتخاذ القرارات الصعبة والضرورية، بحيث يستوعبها الجمهور بأقل ما يمكن من ردود الفعل السلبية، وكذا أمر التحرر من مظلة الرعاية الاجتماعية أو تقليص مساحتها (بتوجيهها إلى المستحقين فقط) والذي يحتاج إلى التدرج فيه إلى أبعد الحدود، خصوصا وأن اقتصاد السوق أصبحت أزماته تتصف بالديمومة، مما يتطلب اتخاذ إجراءات تعديلية مستدامة، تحافظ على الحد الضروري من استدامة الخدمات العامة، وتوفير الدعم الضروري للمجتمع وخصوصا للفئات الهشة، مع العمل في ذات الوقت على الحفاظ على التوازنات المالية للدولة، ولذلك فإن أي إجراء مفاجئ من المرجح أنه سوف يأتي بنتائج سلبية. إن دولة الرعاية قد شكّلت إلى حد الآن صمام الأمان الضروري للحد من الآثار السلبية للعولمة على عموم الناس، خاصة الفقراء ومحدودي الدخل منهم، من خلال ما تتحمله من مسؤوليات كبيرة في مجال توفير الكفاية للفرد والمجتمع في مواجهة شمولية النظام الرأسمالي الليبيرالي الذي لا يهتم كثيرا بالجانب الاجتماعي. إلا إن تباطؤ الاقتصاد العالمي وأزماته المتكررة ما يزال يؤدي إلى إلحاق الضرر بالطبقات الفقيرة وحتى بالطبقة الوسطى، عبر سياسة الضرائب والتسريح من العمل وتفاقم البطالة وارتفاع الأسعار، بما يضعف قدرة أغلبية الناس على مواجهة متطلبات الحياة. الأمر الذي يحتم استمرار الدولة في توفير شبكات الأمان الاجتماعي المعهودة، من خلال البرامج التي تؤمن الحد الضروري من الخدمات الصحية والتعليمية والإسكانية والغذائية، وهو أمر صعب وغير متيسر في بعض الأحيان في ضوء ما تعانيه الموازنات من اختلال، وفي ظل ما تعانيه اقتصاديات هذه البلدان من مشكلات، وما تواجهه من تحديات. مما يجعل من هذا العمل المطلوب من الدول معادلة صعبة إن لم تكن في بعض الأحيان مستحيلة التحقيق. درجة فوق الهمس: قدم ثلاثة من الخبراء الاقتصاديين الأوروبيين حججًا تدعم الحفاظ على «دولة الرعاية الحقيقية»، وانتهت بعدد من التوصيات، من بينها أنه «يفترض بدولة الرعاية الأوروبية أن تغطي الجميع، بحيث تطال عطاءاتها كل فرد في كل بلد في شكل من الأشكال، ويجب أن تعتبر مكملةً وليست بديلا عن أنظمة الرعاية الاجتماعية الوطنية التي تستعين عند الحاجة بصندوق أوروبي يتمتع بموارده الخاصة. وذلك انسجامًا مع صورة أوروبا الطامحة لتكون النموذج الأكثر مساواة ومسؤولية من أجل مواطنيها، والمضي قدمًا نحو تأسيس العقد الاجتماعي ليسهم في بناء مواطنية مشتركة، وإنشاء صندوق اجتماعي أوروبي يملك الموارد الكافية كي يستثمر من أجل إيجاد وظائف منتجة، وتأمين النفقات المستقبلية للرعاية الاجتماعية وإنتاج الثروة وتوزيعها، وحماية المؤسسات المنتجة من هيمنة الرأسمالية المطلقة، وتعزيز موقع المؤسسات التي تضع لنفسها أهدافًا ترتبط بالمسؤولية الاجتماعية، والانصراف إلى إنقاذ أنظمة الرعاية الاجتماعية وتحسينها، والابتعاد عن مشاريع الغزو الأمريكية التي تهدف إلى نقل انتباه المواطنين الأمريكيين عن المشكلات الاجتماعية الخطيرة والتفاوت المتفجر الذي تعانيه البلاد».
مشاركة :