في تسعينيات القرن الماضي، عندما كان آل كلينتون في البيت الأبيض، اعتاد الحزب الديمقراطي على التوافق والتوصل إلى تسويات على الصعيدين الشخصي والسياسي. وكان الرئيس بيل كلينتون مصمماً على إظهار أنه ليس «ليبرالياً» نمطياً، وهو مصطلح كان قد أصبح وصفاً شائعاً. وبصفته حاكماً لولاية أركنساس ومرشحاً لمنصب الرئيس، شجب فنانة الهيب هوب «سيستر سولجاه» بسبب تبريرها عنف السود ضد البيض، ورفض منح عفو لـ«ريكي راي ريكتور»، الذي قتل شرطياً وحُكم عليه بالإعدام رغم أنه كان مضطرباً عقلياً. وكرئيس، وقّع قانون إصلاح «الرفاهية» رغم الاحتجاجات البائسة من السيناتور الديمقراطي «دانيل باتريك موينيهان» ووازن الموازنة، مؤكداً أن «عصر التوسع الحكومي قد ولّى». وشعر كثير من الديمقراطيين بالاستياء من هذه «التوليفة» من السياسات التي لا تعكس في مجملها «نهج» الحزب الديمقراطي، لكنهم كظموا غيظهم، لأن كلينتون حاول أيضاً توسيع تغطية الرعاية الصحية، والحفاظ على قانونية الإجهاض، وكان بالنسبة للديمقراطيين أفضل من أي رئيس جمهوري. وللأسباب ذاتها، تغلب الديمقراطيون على هواجسهم بشأن السلوك الشخصي لكلينتون، بداية من الصفقات المالية الغامضة إلى معاملته للنساء، والتي أفضت إلى اتهامات بالتحرش الجنسي وحتى الاغتصاب! والديمقراطيون حزب مدافع عن المرأة، لكنهم وجدوا أعذاراً لكلينتون ما كانوا أبداً سيجدونها لأي رئيس جمهوري. ويمكننا القول إن الديمقراطيين دفعوا ثمناً باهظاً في انتخابات 2016 بسبب سنوات التوافقات وحلول الوسط. فهيلاري كلينتون خسرت لصالح دونالد ترامب لأن صورتها كانت قد تلطّخت بالفعل. وتمكّن ترامب من وصفها بـ«هيلاري الفاسدة»، لأنها كانت قد انتهكت القواعد الحكومية باستخدام بريدها الإلكتروني الخاص، وسمحت بتضارب في المصالح بين المانحين لمؤسسة كلينتون. ومن جانبها، اضطرت هيلاري إلى تخفيف هجماتها على مزاعم سوء السلوك الجنسي بحق ترامب، لأنها كانت قد قضت سنوات تبرر نزوات زوجها. وبعد نشر فيديو أثناء الحملة الانتخابية يتحدث فيه ترامب بأسلوب سيء عن النساء، دافع المرشح الرئاسي آنذاك عن نفسه بالظهور مع سيدات كنّ قد اتهمن بيل كلينتون بالاعتداء عليهن. والآن، وقد ولّت تلك الأيام بحلوها ومرها، وأضحى الديمقراطيون في حالة مزاجية غير توافقية، سواء على الصعيد الأيديولوجي أو الأخلاقي، وقد تحوّل الحزب صوب اليسار منذ انتخابات 2016. وجميع المتنافسين على منصب الرئيس في مجلس الشيوخ، مثل الأعضاء «كوري بوكر» و«كامالا هاريس» و«آمي كلوبوشار» و«بيرني ساندرز» و«إليزابيث وارين»، صوّتوا ضد قرار يحذر من «السحب المتهوّر» للقوات الأميركية من سوريا وأفغانستان. وباستثناء «كلوبوشار»، فهم جميعاً يدافعون عن «برنامج رعاية صحية للجميع»، وتعليم جامعي مجاني، وعهد بيئي جديد، إضافة إلى برامج أخرى مكلّفة. وعندما سئلت عن كيفية تمويل قائمة الأمنيات هذه، أيّدت «ألكساندريا أوكاسيو كورتيز»، النائبة عن ولاية نيويورك، رفع معدلات الضرائب على الدخول شديدة الارتفاع إلى 70 في المئة، ولقيت ردود فعل إيجابية من حزب قضى عقوداً يحاول تغيير صورته بشأن «الضرائب والإنفاق». ويذكر تقرير نشره موقع «أكسيوس» أن استطلاعاً لرأي الناخبين الديمقراطيين في ولاية «أيوا» توصّل إلى أن «الاشتراكية» تحظى بمعدلات تأييد إيجابية، أما «الرأسمالية» فمعدلات تأييدها سلبية. ويوضح التقرير أنه في هذه البيئة التقدمية، يتشكك معتدلون مثل العمدة السابق لولاية نيويورك «مايكل بلومبيرج»، وحاكم فيرجينيا السابق «تيري ماكوليف»، ونائب الرئيس السابق «جو بايدن»، في قدرتهم على المنافسة من أجل الترشيح. وحتى المرشحون التقدميون تعين عليهم تقديم اعتذارات مضنية عن إساءات مثل محاباة «وول ستريت» أو التشدد بشأن الجريمة! وإلى جانب عدم التسامح مع السياسات الوسطية يأتي عدم التسامح مع السلوكيات الشخصية للسياسيين. وكشف موقع «بازفيد» في 20 نوفمبر 2017 أن النائب الديمقراطي عن ولاية ميتشغن «جون كونيرز»، كان قد اتُّهم بالتحرش الجنسي. وفي غضون أسابيع، أُجبر العضو الأطول خدمة في الكونجرس على الاستقالة. أما السيناتور «آل فرانكين» فتُرك يومين فقط بعد أن اتهم بالتحرش. واكتشف حاكم فيرجينيا الديمقراطي «رالف نورثام» الآن بنفسه كيف أصبح الديمقراطيون غير متسامحين، بعد أن نشرت تقارير إخبارية يوم الجمعة الماضي صورة «عنصرية» أقرّ في البداية أنها صورته، قبل أن ينكر ذلك في اليوم التالي. لكن لم يعد الأمر مهماً، فقد طالبته النخبة في الحزب الديمقراطي على مستوى الولاية والمستوى الوطني بالاستقالة. ولا شك أن رفض الديمقراطيين لـ«وسطية» كلينتون لصالح «النقاء التقدمي»، أصبح يمثل مشكلة أكبر. فميلهم الشديد صوب «اليسار» يهدد بتنفير المستقلين والمعتدلين الذين يحتاجون تأييدهم لهزيمة ترامب، والحكم بفاعلية. ولدى الولايات المتحدة حزب متشدد بالفعل، ولا تحتاج إلى آخر!
مشاركة :