على مدى سنوات ظللت محتارا في أمر تلك الفئة التي تستعرض قدراتها الأدبية أو «قلة الأدبية» على جدران دورات المياه، ومن الواضح ان هناك من يحس بأن «الإلهام» ينزل عليه في دورة المياه لأنك تدرك أنه أمضى وقتا طويلا في رسم أو كتابة كلام معظمه فارغ، وحتى لو كان «مليان» بأي معيار فأن يجلس شخص في مكان مخصص للفضلات البشرية مسلحا بأقلام ليشخبط ويرسم، فإنه دليل على أنه فاسد الذوق. في كل الدول الغربية تتفشى تلك الظاهرة التي يسمونها «الغرافيتي»، بل وهناك دار نشر معروفة تجمع ما يكتب في دورات المياه وغيرها وتصدره في سلسلة كتب شديدة الرواج، ومؤخرا صارت مؤسسات عديدة تستعين بفناني الغرافيتي ليحيلوا جدران لوثها بعض عديمي الموهبة والذوق بعبارات أو رسومات وسخة، كي يستخدموا مواهبهم ويجعلوا من وعلى تلك الجدران لوحات فنية، ولكن شيوع تلك الظاهرة في الشرق أو الغرب لا يعني أنها «طبيعية»! وما هو غير طبيعي تماماً هو أن يكتب شخص ما اسمه الحقيقي كاملاً في مرحاض كي «يتذكره» الآخرون، وفي دورات المياه في المطارات تجد مثلاً عبارات من شاكلة: حسنون يانسون المغفلي، مسافر ترانزيت عبر المنامة إلى قبرص!! هب أنني تذكرتك يا حسنون بن يانسون، وهب أنني التقيت بك وعرفت أنك صاحب العبارة المكتوبة في مرحاض في مطار المنامة! هل سيسعدك أن أقول: يا لمحاسن الصدف،... إنت حسنون صاحب الاسم اللي في الدبليو سي العطلان؟ لماذا لا تكتب في مجلة نيوزويك طالما أنك «كاتب مشهور»؟... ويبلغ انحطاط الذوق بالبعض أنهم يكتبون عبارات تمجد أندية كرة القدم التي يشجعونها على جدران المراحيض!! كيف يربط الإنسان بين شيء يحبه ومكان ارتبط بالقاذورات والأمراض!! والمصيبة أن بعض المغفلين يحسبون أنهم يسدون خدمات لمن يعجبون بهم من المطربين والمطربات: تخيل مشاعر شيرين عبدالوهاب مثلا إذا بلغها أن معجبا كتب في دورة مياه في العتبة: دايما على بالي يا شيرين!!! من المؤكد أنها لو التقت بمن يكتب مثل تلك العبارة ونظرت اليه كانت ستغسل عينيها سبع مرات إحداهن بالديتول. يا جماعة: الإنسان السويّ يحرص على عدم استخدام أي دورة مياه عامة حتى للأغراض التي خصصت لها؛ نعم فكثيرون (وأنا منهم) يحرصون على عدم دخول دورات المياه في أماكن العمل أو الدراسة تفاديا للقرف، فكيف يطيق إنسان حتى ولو كان نصف عاقل أن يدخل مرحاضاً وهو مزود بقلم ذي رأس غليظ لتسجيل خواطره؟! والأدهى من كل ذلك أن أدباء المراحيض يستمدون مفرداتهم من شبكة الأنابيب التي تنقل محتويات المراحيض، ويتفننون في رصّ الألفاظ التي تعكس وساخة عقولهم، بل إن بعضهم يعرض سير وأعراض الآخرين على الجدران. عندنا في السودان يستخدم البعض جدران عربات القطارات لتسجيل أسمائهم كي تحفظها الأجيال المقبلة، ووجدت ذات مرة عبارة «سعيد العفن»... منقول من سجن عطبرة إلى سجن بورتسودان.. اذكرونا فالذكرى ناقوس يدق في عالم النسيان.. اذكرونا فالذكرى عمر ثان!! تذكرت كتاب «الرسائل العصرية» الذي كان رائجاً في الستينيات والسبعينيات، وكان أنصاف المتعلمين ينقلون عنه نصوص الرسائل بحسب مقتضى الحال وكانت أكثر أقسامه «شعبية» تلك المتعلقة بـ«الحب».. وكم من مرة ضبطت أحد معارفي ينقل نصاً كاملاً عن ذلك الكتاب الركيك ليخاطب حبيبته: أشتاق إليك اشتياق الصائم للمغيب والمريض للطبيب والفنادق للغريب. وقد حماني الله من ذلك الكتاب لأنني لم أجد فتاة تحبني على عهد المراهقة أو ما بعدها، كما أن الله أكرمني بعدم الهوس بتشجيع أي نوع من الرياضة فلا أتعصب لفريق، وعصمني كل ذلك عن ممارسة أدب الجدران، والهتاف بحياة هذا النادي أو ذاك، وانسحب ذلك على مجال السياسة حيث لم يسبق لي الهتاف بحياة أي زعيم، ذهابا إلى النعيم او الجحيم.
مشاركة :