سعد الله: يهود الجزائر عشقوا الطرب الأندلسي

  • 2/26/2015
  • 00:00
  • 5
  • 0
  • 0
news-picture

يتناول الباحث الجزائري فوزي سعد الله -في هذا الحوار الذي خص به الجزيرة نت- موضوع الموريسكيين ودور اليهود في بروز وانتشار الموسيقى الأندلسية في البلد وفي شمال أفريقيا عموما، وعلاقة الاهتمام بالثقافة الأندلسية مع مشروع الاتحاد المتوسطي الذي يشمل إسرائيل. ويعتبر فوزي سعد الله من أبرز الباحثين الذين تناولوا تاريخ اليهود في الجزائر وعلاقتهم بالموسيقى الأندلسية، وأصدر سلسلة من الكتب في هذا الشأن منها يهود الجزائر.. هؤلاء المجهولون، ويهود الجزائر.. مجالس الغناء والطرب، ويستعد لإطلاق إصدار جديد بعنوان الشتات الأندلسي في الجزائر والمنطقة العربية والمتوسطية. بحكم اشتغالك على موضوع يتعلق بـأندلسيي الجزائر والموريسكيين، ما حقيقتهم خارج حواضرهم المعروفة، وماذا أضافوا للثقافة الجزائرية؟ أنا مهتم ببحث مصير مختلف الجاليات الأندلسية والموريسكية، إذ إن جزءا كبيرا من الأندلسيين والموريسكيين هاجروا -أو هُجّروا- على مراحل إلى الجزائر خلال أحداث السقوط التدريجي للممالك الأندلسية وبعده، حيث استقروا في تاهرت الرستمية التي آوت وحمت صقر قريش عبد الرحمن الداخل أثناء عبوره المنطقة باتجاه الأندلس، واستوطنوا واحة المسيلة التي أسسها الأندلسي علي بن حمدون الجذامي رجل الفاطميين في القرن العاشر الميلادي، فضلا عن انتشارهم في حواضر ومدن كثيرة أخرى. ويمكن تقدير عدد الوافدين على الجزائر بعد سقوط الفردوس المفقود بمئات الآلاف على الأقل، حتى أصبحوا يشكلون غالبية السكان الجزائريين في العديد من المدن والأرياف في العهد العثماني، رغم أننا نسينا ذلك اليوم وكأنهم لم يوجدوا أبدا. الأندلسيون والموريسكيون جزء مهم من المجتمع الجزائري، وقد جلبوا له قبل قرون ثقافة وعادات وتقاليد شملت فنون الطبخ والأزياء والتجميل والزينة والموسيقى والغناء والفرح والقرح، وامتد تأثيرهم إلى لسان المنطقة الذي انتقلت إليه اللهجات الأندلسية، فضلا عن الإسهام الكبير بل الحاسم في الازدهار الاقتصادي والعسكري للجزائر منذ مجيئهم الجماهيري إلى البلاد في بداية الحقبة العثمانية من تاريخ البلاد في مطلع القرن السادس عشر. وكيف السبيل لمعرفتهم الآن في ظل الغياب شبه الكلي للوثائق التاريخية في هذا الصدد؟ وأين الحقيقة من الأسطورة مع ادعاء الكثير نسبتهم إلى الموريسكيين؟ الوثائق التاريخية موجودة على قلتها وتتوفر على كمٍّ هائل وقيم من المعلومات، لا سيما في مركز الأرشيف الوطني في مدينة الجزائر، وأيضا في إسطنبول وإسبانيا وإيطاليا وفرنسا، وحتى في مصر وبلاد الشام. يجب فقط التشمير على السواعد والعمل. اليوم، يمكن معرفة الأندلسيين والموريسكيين من ألقابهم العائلية التي لم يتغير الكثير منها. وهي اليوم مثلما كانت عليه في غرناطة أو بلنسية أو إشبيلية أو مالقة وغيرها، رغم بعض التحوير عند تكييف الألقاب الإسبانية منها مع اللسان العربي. هؤلاء الأندلسيين/الموريسكيين يمكن معرفتهم من عدة مؤشرات من بينها الطقوس الاجتماعية والتواريخ العائلية والحرف، والألقاب التي نذكر منها: بلانكو (Blanco)، بوناطيرو (Bona Terro)، ورويس الذي أصله (Ruiz) وهي عائلات موريسكية، والعنجروني المنحدرة من مدينة عنجرونة الإسبانية (Lanjaron)، والعرجوني نسبة إلى إقليم أراغونة (Aragon)، ومنتوري نسبة إلى بلدة منتورة، ومالكي نسبة إلى مالقة، والزهار والأندلسي والقرطبي والشبلي نسبة إلى إشبيلية، وبن النيقرو وبن الحفاف وابن الأمين وابن السمان... إلخ. وكيف تشكلت ثقافة النسيان تلك رغم هذا التاريخ الحضاري الكبير؟ 132 عاما من الاحتلال الفرنسي على طريقة احتلال وتدمير بلاد الهنود الحمر وثقافتهم، تكفي لطمس معالم مهمة من هوية أي شعب كان. فترة الاحتلال أشاعت الجهل والأمية في الجزائر التي كانت نسبة الذين يقرؤون ويكتبون في ربوعها أعلى من نظيرتها في فرنسا بشهادة جنرالات فرنسيين شاركوا في غزو البلاد، وأتلفت سلطات الاحتلال وسرقت الكتب والمخطوطات والأرشيف الإداري، وهجرت ونفت خلالها النخب العلمية والسياسية من أول أيام الاحتلال عام 1830، فانقطع التواصل بين الأجيال وتلاشت الذاكرة. بعد الاستقلال، عملت الدولة الجزائرية على تدارك ما فات وحققت ما حققت، رغم النقائص، لكن لا يمكن تدارك كل شيء في بضعة عقود. شكل اليهود نسبة معتبرة من الأندلسيين الذين نزحوا إلى الجزائر وشمال أفريقيا عموما، فماذا قدموا للجزائر وماذا قدمت لهم؟ اليهود كانوا جزءا من اللاجئين والمهاجرين الأندلسيين، لكنهم كانوا أقلية صغيرة وليست بكل الأهمية المزعومة في الأعوام الأخيرة، ولم يتجاوز عددهم بضع عشرات الآلاف في أقصى تقدير. فقد كانوا في الأندلس أقلية، والذين أتوا إلى الجزائر ليسوا كل الأندلسيين اليهود، لأنهم تشتتوا في حوض المتوسط وشمال أوروبا وتركيا، وحتى في أمريكا الجنوبية حينذاك. إذن، يهود الأندلس كانوا أقلية ضمن الأقلية اليهودية المعروفة باللغة العبرية بالسفارديم أو الميغورشيم (أي المهجرين). وما جلبوه لم يختلف عما جلبه غيرهم من الأندلسيين المسلمين الذين كانوا بطبيعة الحال أكثر بكثير عددا، وبالتالي أكثر تأثيرا في البلد المضيف. ما جلبوه هو الحرف والصنائع والفنون والثقافة والعادات الأندلسية المتميزة برقيّها وتطورها، وما يقال أكثر من هذا فهو مجرد مزايدات ومبالغات مرتبطة بالصراع القائم على أرض فلسطين منذ عقود. أما الجزائر فقد وفرت لليهود في ظل الانتماء الإستراتيجي للنظام العثماني، الأمن والطمأنينة والاستقرار والتسامح وفرص النجاح كغيرهم من المواطنين بمختلف أعراقهم وأديانهم. هل كان يكفي مجرد صدور مرسوم من الاحتلال الفرنسي (مرسوم كريميو 1870) لإنهاء علاقة اليهود مع المجتمع الجزائري؟ العلاقة بين يهود الجزائر وبقية مواطني البلاد لم تنته بمجرد صدور مرسوم كريميو عام 1870. القطيعة حدثت على مراحل ولم تكن قطيعة كاملة مطلقة، لكن العلاقة ساءت أكثر عندما حان موعد الحسم في مسألة الاحتلال خلال الثورة التحريرية ما بين عامي 1954 و1962. يهود الجزائر الذين كان عددهم يقدر بنحو 141 ألف نسمة -بحسب التعداد الذي قامت به النازية بداية سنوات 1940- اختاروا في غالبيتهم الرحيل مع المحتلين إلى فرنسا، بينما توجهت أقلية صغيرة إلى إسرائيل التي فشلت في استقطابهم آنذاك وإلى إسبانيا وكندا. لكن أقلية صغيرة جدا منهم يسارية التوجه السياسي قاتلت بإخلاص الاستعمار الفرنسي بالسلاح وضمن شبكات الدعم والإسناد للثورة، وهذه الأقلية بقيت في الجزائر أو على الأقل حافظت على روابطها الوثيقة بها. ومن بين أبرز وجوهها ابن قصبة مدينة الجزائر الطبيب دانيال تيمسيت، والصحفي هنري علاق، والصحفي العريق في مدينة قسنطينة ويليم سبورتيس الذي نشر مذكراته قبل نحو عامين، وابن واحة بسكرة موريس لبان الذي استشهد في سبيل حرية بلاده في اشتباك مسلح مع قوات الاحتلال، ورفيقة السلاح المجاهدة ريموند بيسكارد ابنة ضاحية بولوغين في مدينة الجزائر التي ماتت حاملة السلاح برفقة عشرة من رفاقها المسلمين وهم يقاتلون جنود الاستعمار الفرنسي ذات يوم من شهر نوفمبر/تشرين الثاني 1957 في منطقة مجانة القريبة من سطيف شمال شرق البلاد. لكن مرسوم كريميو كان سلاحا تشريعيا قويا استخدمه الاستعمار الفرنسي لتفكيك جزء من المجتمع الجزائري عن بقية الجسد الاجتماعي، التفكيك -الذي بدأ بقانون- تحول إلى عملية سلخ ثقافي اجتماعي عن بقية الجزائريين ثم صار سياسيا. وما سر ارتباط اليهود بالموسيقى الأندلسية؟ وهل حقا أن هذا النوع الموسيقي هو يهودي بشكل أو بآخر؟ اليهود أحبوا الموسيقى العربية الأندلسية ومارسوها وأبدع بعضهم فيها لسبب بسيط وهو كونهم أندلسيين لا أكثر ولا أقل. وعندما شاع هذا الأسلوب الغنائي لدى سكان المغرب الإسلامي انتشر أيضا في أوساط اليهود، لأنهم لم يكونوا دولة داخل دولة بل كانوا مواطنين كغيرهم من المسلمين والنصارى. أما القول بأن هذا الفن الموسيقي يهودي فهذا القول أعتبره نكتة لا أكثر، لأن تاريخ الغناء العربي الأندلسي معروف ولا يتسع للمزايدات والدعايات غير البريئة سياسيا أحيانا، لا سيما منذ نحو عقدين أو ثلاثة من الزمن. ألا يكفي أن الفضل يرجع لليهودي إيدموند يافيل بن الشباب في تدوين النوتة الأندلسية الذي لولاه لاختفى هذا النوع الموسيقي؟ فضل إيدمون ناثان يافيل كبير على الموسيقى العربية الأندلسية في القرن العشرين، لكن حسب أسلوب مدينة الجزائر فقط الذي هو خليط موسيقي قرطبي بلنسي غرناطي. غير أن ناثان يافيل ما كان ليجمع الأشعار ويدونها لو لم يكن تلميذ شيخه المسلم محمد بن علي سفنجة الذي توفي عام 1908، والذي تتلمذ بدوره على العملاق الشيخ المنمش نجم النصف الثاني من القرن 19 في مجاله، والذي ورث بدوره فنه عن كبار هذا الفن الأندلسي المسلمين في العهد العثماني. يافيل عندما كان ينجز عمله ويتعاون مع الفرنسي جول روانيه كان يهتدي بخبرة شيخه سفنجة قبل كل شيء وشيوخ مسلمين آخرين، وهذا لا ينقص من قيمة دوره في شيء. لكن لا يحق أن يصور على أنه لولاه لضاع التراث الموسيقي الأندلسي، لأن هذا التراث صمد طيلة قرون قبل وجود المعلم يافيل ابن الشباب المولود عام 1874 في مدينة الجزائر العتيقة، رغم ما واجهه من تحديات وتهديدات خلال فوضى سقوط الأندلس واضطرابات بسط النفوذ العثماني في الجزائر. أما بالنسبة للتدوين الموسيقي، فقد كان لبعض الفنانين نظامهم الأبجدي التقليدي الخاص لكتابة الموسيقى، والذي كان يضيع تدريجيا حتى انقرض اليوم. وما علاقة الاهتمام بالثقافة الأندلسية ومشروع الاتحاد المتوسطي الذي يشمل إسرائيل؟ لا أعتقد أن هناك علاقة بينهما، لأن الاهتمام بالثقافة الأندلسية سابق لمشروع الرئيس الفرنسي الأسبق نيكولا ساركوزي. لكن إسرائيل اهتمت وتهتم بهذا التراث الموسيقي التاريخي لتحقيق الانسجام الثقافي داخل مجتمعها بما يسمح باستيعاب اليهود المغاربة والعرب بشكل عام، وهم يعشقون هذا التراث، حتى أصبح لديها على الأقل سبعة أوركسترات لهذه الموسيقى الأندلسية وبمستوى فني عال.

مشاركة :