فن الرقوش في الشعر الأندلسي.. العصر الغرناطي نموذجاً

  • 3/30/2019
  • 00:00
  • 13
  • 0
  • 0
news-picture

نختص بهذهِ الدراسة للباحثة الدكتورة إيمان الجمل العلاقة بين فني الشعر والعمارة حيث أن هناك قواسمٌ مشتركة بين الفنون وصوراً من الارتباط بين الفنون بعضها البعض فثمة علاقة قوية تجمع بين فنون الشعر والموسيقى أو ما بين الخطِ والعمارة والنحت. وعن هذا التداخل فإن كلا الفنَّين يتداخلان ويتشابهان في أن كلاهما يقوم على شكلٍ منظمٍ متراكبٍ لا يصح فيه خلل ولا يجوز فيه خطأ حتى لا يتهدّم البناء أو على أقل تقديرٍ يتشوَّه والبناءان قائمان أساساً على فكرة الجمال الكائن في فكر ووجدان الشاعر من ناحيةٍ والمعماري من ناحية أخرى الذين حركهما الخيال كبداية لإبداع كلٍ منهما. وتذكرُ الباحثة إيمان الجمل دراسة للدكتورة بركات محمد إلى جمال الخط العربي وعلاقته بفن الأرابيسك وهو صورة مرسومة وملونة أو منقوشة، نافرة ذات أشكال هندسية جذَّابة أو أشكال توريقية مكررة وفى الحالتين تحمل معنى صوفياً للتبتل والعبادة الإسلامية، كما ازدهر إلى جانب الأرابيسك الخط العربي الجميل الذي أخذ أشكالاً وأنواعاً. والعلاقة قائمة بين فن الشعر وفن الخط فالشعر المرقوش على أشكال العمارة الإسلامية المختلفة والمرقوش على الأدوات والأثاث إنما رُقِشَ بخطوطٍ زخرفية رائعة الأشكال مما جعلها متاحف مفتوحة. وفى مقالٍ لعاشق الخط العربي زاهد حرش حول فن الزخرفة والخط العربي يوضح كيف أن المرء يشعر من تأمله لرقوش الخط العربي كيف يبحر الذهن مع انحناءات الحروف وتداخل الكلمات لموسيقى موشحات أندلسية تلامس الإحساس عبر ذلك الخط الكوفي الجميل وحالات التجلي الكامنة فيه.. وتؤكد الباحثة أن الأندلس لم تتخلف عن مسيرة تطور الخط العربي، فقط ظهرَ ذلك في أوضح صوره عبر الفترات الأندلسية وعصورها، فعرفت الأندلس كل أشكال الخط العربي وسارت مع ألوانه (الكوفي والنسخي والثُلث) وظلت هذه الأنواع في سباقٍ مع التطور حتى وصلت إلى قمتها في العصر الغرناطي، الذي امتاز بكونه عصر للنقش والزخرفة وبلغت الخطوط العربية فيه مبلغ غايتها من التَّزين حيث مُزِجت الحروف بالتوريقات النباتية وتضافرت رؤوسها في رشاقةٍ وإيقاع جعلت من تلك الحروف جملة موسيقية متناغمة، وأدى تجويد الخط العربي إلى إبداع لوحاتٍ رائعة من الكتابات على الأبنية والأدوات في نهايات دولة الأندلس... وتشير المؤلفة إلى ما كتبهُ الدكتور محمد الجمل في مرحلة نضوج الخط العربي وهندسته وزخرفته على جدران ونافورات قصر الحمراء بقوله أن الكتابات الكوفية وصلت في الأندلس إلى مراحلها النهائية وتمَّيزت تلك الكتابات بتطورٍ هائلٍ في النقش والزخرفة وأشكال الحروف، وأسبغت على المجالس بقصور الحمراء مَظهرا جمالياً لا مثيل له في أي عصر من العصور. ويشيرُ بعض الباحثين إلى ارتباط جغرافية المكان بنوعية العمارة فيه فوجود الأنهار والغابات وخصوبة الأراضي والوديان يساعد على سرعة قيام المدن وإنضاج الفنون وبتأمل خريطة غرناطة فإنه يمكننا القول بأنها امتلكت الكثير من المقومات الجغرافية فاجتمعت لها أنواع من الطبيعة أمدتها بكل ما يلزم البناء والتطور الحضاري. ويعدُ قصر الحمراء درة تاج العمارة الأندلسية وبلغت الزخارف الجصية قمتها فيه، ونلاحظ ميل الفنان إلى الإسراف والمبالغة في تغطية الجدران بالزخارف المنقوشة، كما يلاحظ مهارته في توزيع هذه الزخارف التي تتكون من التوريقات المتشابكة والأشكال الهندسية وبهذه الزخارف يوجد بها إطار عريض به رقوش كتابية استخدم فيها خط قريب من النسخ ومما يزيد جمال هذه الزخارف تلوينها باللون الذهبي.. أما قصر (البرطل) فهو من أقدم المباني في غرناطة ويصف الدكتور محمد الجمل رقوش القاعة الداخلية لقصر البرطل بقولهِ أن النقوش الكتابية المسجلة على القاعة الداخلية التي تلى الرواق المسقوف من قصر البرطل هي عبارة عن إطارٍ مستطيل الشكل تعلوه عبارة (إلا الله) والأفريز العلوي للنقش يحصر في داخله أبيات منسوبة إلى الوزير ابن الجيَّاب وتلك الأشعار منقوشة بالخط الثلث الأندلسي ومنها : وليلهُ فيك طيباً كله سحر... ويومه بتوالى بِشرهِ جَذلُ ولأن قصر البرطل من أقدم قصور الحمراء في غرناطة فإننا نجد رقوشاً قد تكررت كثيراً في العديد من القصور الأخرى مثل رقش: يا ثقتي يا أملي... أنت الرجا أنت الولي. ولا يقتصر فن الرقوش فقط على قصر البرطل ولكن يتجلى أيضاً في صرح أندلسي آخر وهو قصر «جنه العريف» الذي يقع في ركنٍ منعزلٍ فوق ربوة مستقلة آ حيث ُ يشرف هذا القصر من ربوتهِ العالية على جبال سييرا الشاهقة وقد نقشت سورة الفتح على لوحة خشبية كبيرة تحيط بالجزء الأعلى من رواق المدخل ويُفضى هذا المدخل إلى ساحة ٍ فسيحة ٍ وفى صدر هذه الساحة مدخلِ جميلِ الزخرف منقوش على جدرانهِ قصيدة نجتزئ من أبياتها: قصر بديع الحسن والإحسان.... لاحت عليه جلالة السلطان وفي رحلتنا مع غرناطة ونقوشها ورقوشها نجول في أرجائها لتروى لنا فنون ملأت أسماع الزمان وآثار حضارة ظلت باقية شاهدة عيان ومن أهم تلك الأماكن قاعة (المشور) أحد أهم القاعات في قصر الحمراء حيث أنها تعد بمثابة مركز تنظيم الدولة في ذلك العصر ويذكر الدكتور عبد الرحمن زكى قاعة المشور أنه تم أنشاؤها عام 1356 هجرية كما تشهد بذلك أبيات الوزير، وهو المكان الذي خُصص في القصر للموظفين الذين يعاونون السلطان في إدارة شئون الدولة وقد تغيرت سماته الرئيسة ولم يبق منه سوى بعض زخارفه الجصية وفسيفسائه الرخامية.. وفى شعار بنى الأحمر وبعض ما تبقى من النقوش العربية ومن أهم ما تبقى قاعة كبرى وفيها رقشٌ باسم السلطان محمد الملقب بالغنى بالله تضمن أبيات من الشعر منها: فتحت للفتح المبين... وحسن صانع أو صنيع. وفي المشور أيضاً القاعة الذهبية نسبة إلى الزخارف الذهبية التي ازدانت بها وهناك ساحة إلى جنوبها تقع سقيفة تحتها بابان الأيسر منها يؤدى إلى قاعةٍ صغيرة تقود الزائر إلى بهو الريحان والباب الأيمن يؤدى إلى المدخل الأصلي للقصر وفوق الباب ذي الدفتين طراز من الخشب نقشت عليه أبيات من الشعر منها: أحسنَ الله لنا الصنع... كما حسّن الخلق له والخلق. وترجع أهمية تلك الرقوش التي وصفَ بها الشاعر قاعة المشور إلى أنها الوصف الوحيد الباقي بين أيدينا لهذه القاعة كما كانت عندما فرغ المعماري منها وقتَ إنشائها. ويتضح لنا الدراسة ما تظهره لنا تلك الرقوش مدى اهتمام الأسر الأندلسية الحاكمة بفن العمارة فكأنهم يتوارثون هذا الشكل من الاهتمام الحضاري ويبلغ هذا الاهتمام مبلغهُ حين يُعَّين الخليفة أو السلطان الوزراء شعراء لكى يسجلوا هذه الأعمال شعراً آخذين من كل شيء بطرف، فرقوشهم تدور في معان لا يجوز أن تخرج عنها فهي ما بين وصفٍ للمبنى وبديع إنشائه ومظهره من ناحية وشكرٌ لبنايه وصانعه ودعاء وتمجيد لراعيه من ناحيةٍ أخرى.

مشاركة :